بَعْدَ الرَّحِيلِ تَكَشَّفَ الإِبْصَارُ ... وَاليَوْمَ أُدْرِكُ مَا حَوَتْهُ الدَّارُ
لَمَّا بَلَغْتُ الأَرْبَعِينَ تَوَهَّجتْ ... وَأَضَاءَ لِي مِنْ حُسْنِكُمْ أَقْمَارُ
مَا كُنْتَ وَالِدَنَا فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا ... رَجُلٌ عَظِيمُ الخُلْقِ فِيهِ فَخَارُ
لَمْ أَدْرِ أَنَّكَ كُنْتَ أَكْبَرَ مِنْ أَبٍ ... حَتَّى عَلَا فِي مَفْرِقِي الإِنْذَارُ
أَغْشَى الشَّبَابُ بَصِيرَتِي عَنْ حُسْنِكُم ... وَاليَوْمَ قَدْ رُفِعَتْ لِيَ الأَسْتَارُ
يَا حَسْرَتَا أَنِّي عَرَفْتُكَ بَعْدَمَا ... طَالَ الفِرَاقُ وَشَطَّتِ الأَعْمَارُ
فَالْيَوْمَ أُبْصِرُ فِي مَلامِحِ ذِكْرِكُمْ ... رَجُلاً عَلَيْهِ مَهَابَةٌ وَوَقَارُ
أَسْتَرْجِعُ الضَّحَكَاتِ مِنْكَ نَقِيَّةً ... وَالحِشْمَةُ السَّمْحَاءُ فِيكَ شِعَارُ
وَأَرَى الحَيَاءَ يَزِينُ صَمْتَكَ حِكْمَةً ... وَعَلَيْكَ مِنْ ثَوْبِ الوَقَارِ إِزَارُ
وَلَكَمْ رَأَيْتُكَ وَالمُرُوءَةُ ثَوْبُكُمْ ... تَسْعَى وَفِي خُطُوَاتِكَ الإِكْبَارُ
وَأَرَاكَ كُنْتَ مُحِبَّ دُنْيَا رَحْبَةٍ ... فِيكَ الأَمَانِي نَهْرُهَا تَيَّارُ
وَلَكَمْ رَنَوْتَ إِلَى البَعِيدِ مُتَيَّمًا ... وَبِصَدْرِكَ المَكْنُونِ ثَمَّ شَرَارُ
حَتَّى إِذَا الْتَفَتَتْ عُيُونُكَ نَحْوَنَا ... تَخُبُو أَنَاكَ وَغَاضَتِ الأَنْهَارُ
وَطَوَيْتَ دُنْيَاكَ الفَسِيحَةَ رَاضِيًا ... وَجَعَلْتَنَا لَكَ فِي الحَيَاةِ مَدَارُ
أَلجَمْتَ رَحْلَكَ كَيْ تَخَفَّ رِكَابُنَا ... وَلَنَا عَلَى كُلِّ المُنَى إِيثَارُ
يَا مَنْ رَأَى فِي مُقْلَتَيْنَا عُمْرَهُ ... حَتَّى اسْتَوَى عُودٌ وَشَبَّ صِغَارُ
وَعَرَفْتُ حُبَّكَ كَانَ فَيْضًا خَالِصًا ... مَا شَابَهُ مَنٌّ وَلَا إِقْتَارُ
فَكَأَنَّ فَقْدَكَ عَادَ حِينَ تَجَسَّدَتْ ... تِلْكَ المَعَانِي، وَالحَنِينُ يُثَارُ
يَا رَبِّ فَارْحَمْ مَنْ بِقَلْبِي ذِكْرُهُ ... وَعَلَيْهِ مِنْ غَيْثِ الرِّضَا مِدْرَارُ
تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.