جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


اصطلح على وصف نفس الإنسان بالعدو، لأنها تهمس له بالدعة والكسل والبحث عن الملهيات والاستسلام سريعًا أمام المشاكل.

والأمر معها (مواجهة) فعليّة، ومعركة حياة، ميدانها الوقت، وسلاحك قرارات الإنسان حينها، فإن قرر الخضوع لهمساتها.. فقد أغلق صفحات سيرة نجاحه، فارغة من أي أسطر، وإن جاهد.. غلبها.. أو اطمأنت نفسه بالمحاولة، مهما كانت النتيجة.

يُذكَر في قصص العرب أن أحدهم سأل عنترة: كيف غلبت الرجال وفُقتهم شجاعة؟ فأمره عنترة أن يعض اصبعه، وعنترة بدوره يعض اصبع السائل، ففعلا ذلك، فما لبث أن صرخ السائل، فقال عنترة: لو لم تصرخْ لصرختُ.

فالأمر متعلق بالصبر، وهو وصفةٌ مرّة، لكنها ممكنة، يذوقها الملايين، ويهنؤون بآثارها، وهي نتيجة قرارات وأفعال تعقبها، وهو الثمرة النهائية لحَمل النفس على الشيء أطول وقتِ ممكن، وقد جاء في الحديث المتفق عليه: «من تصبّر يصبّره الله».

الصبر خواطر متسارعة ضاجة وملحّة تصادم خواطر النفس الراسخة في جوف الإنسان، والصبر زجرٌ وتعنيف للنفس وهواجسها، وإصرار على القيام بما ثقل عليك، ويفترض أن يزداد صلابةً حين تتآزر خواطر الترك والاستسلام من النفس، هكذا كان يصنع العظماء في التاريخ، وقصصهم حافلة بذلك، وأحيانًا يرفعون الصوت بزجرها، وقد خُلّد زجرهم في التاريخ، كآية على أسباب ما وصلوا إليه أمام هذه الوساوس، فنفس الإنسان لها وسواس كما للشيطان وسواس: (ونعلم ما توسوس به نفسه)، وبذلك هي عدوّ متربص في طريق الإنسان: (إنّ النفس لأمارة بالسوء).

وتتأثر هذه النفس بقرارات الإنسان واختياراته، (ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) خصوصًا في تلك اللحظات الحاسمة، التي يكاد أن ينهار صبر الإنسان فيها ويتزعزع بنيانه، وتبدو ملذات الكسل والاستسلام في كامل رونقها كما يصوّرها خياله، وهذه يجدها الإنسان في العبادة، والرياضة، وشدة الغضب، والرغبة بالفتك، والتعامل مع المشاكل والبشر، والعمل، والهوايات.. وما إلى ذلك.

المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الإنسان، مسؤولية الصبر على مرارة الوقت، حتى يصير قضاءه مع ما كنت تكرهه عادة يسيرة، ويتفاجأ حين تتجذر هذه العادة في أيامه أن خواطر النفور من المهام قد انخفض همسها، وقل ضغطها.. وهذه ثمرة الصبر الطويل والجميل.

من المعروف في رياضة الهرولة، أن الإنسان إذا تصبّر عليها، خصوصًا في تلك اللحظات التي يصل تعبك فيها لأقصى مداه، فتصبّ حينها خواطر تركها ولعنات الحال معها صبًّا، ويعلو صوت أمنيات العودة لأيامٍ بلا هرولة ولا(وجع راس)، أقول: إذا تصبّر الإنسان عليها سيدخل بعدها في حالة يسمونها (نشوة العدّاء)، وهو الشعور بالإنجاز والرغبة بالمزيد واختفاء آلام الهرولة وانعتاق الأنفاس وتأقلم الرئتين مع الحال الجديدة حتى يكاد المهرول أن يطير من خفّة نفسه أثناء الهرولة والتلذذ بها، لدرجة أنهم يحذّرون من الانجرار مع مشاعرها ورغباتها بالاستمرار لأن عضلات الجسد والغضاريف لن تتأقلم مع ذلك، فتحدث الإصابات.

وكذا الأمر مع باقي الأمور إذا تجاوزتَ مفازة الصبر وتجلدتَ عليها، لذلك تجد بعض الناس -حين تراه- كأنّه آلة، روتين يومي ثابت ومتنوع ونافع، وهي أمورٌ يدخل بعض الناس في معارك وهموم وغموم.. لفعلها، ويعودون بعد الهزيمة المعتادة أسوأ حالًا، بينما هؤلاء يدخلونها ويخرجون منها كأنها أكلٌ وشرب، هذا المشهد الظاهر، لكن بروفات المشهد وماضيه وكواليسه كانت مجاهدة وتصبّر وحَملٌ للنفس عليها يومًا بعد يوم، حتى دخلوا بعدها في نشوة العدّاء.. وتحول الأمر لعادة ومسلّمة يوميّة، وهذا تجده في الكهول والمسنّين، أولئك الذين رغم مشاغل الكهولة، وأثقال كبر السن، إلا أنهم مجرد ما يسمعون الأذان، حتى يتحولون إلى حالٍ يكونون فيها أخفّ من الريش، من سرعة وضوئهم وذهابهم للمسجد، فلا خواطر، ولا تثاقل، ولا يطرأ على بالهم أن يؤخروها، أو يتركوها، أو يفضلّون أمرًا آخر عليها، أو ينتظرون حتى تسحبهم نداءات الإقامة سحبًا بتثاقل وكسل، وهذا نتاج سنوات من التصبّر، وقد قال أحد السلف: «كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة».. فبعض الأمور تكون سيرتك معها: تصبّر ثمّ فعل. وحين تستمر على هذه الحال سيتحول الأمر إلى عادة.. تبهت فيها معركة الصبر، ثم مع بعض الواجبات الأخرى، سيتلذذ الإنسان بفعل هذه المهام وقد كانت تتمعر نفسه يومًا من مجرد التفكير بالقيام بها، وهذه مكافأتك في الدنيا.

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، هذه سنّة ثابتة، إن تبعها عملٌ حقيقي ومجاهدة فعلية وقرارات متسلحة بزجر النفس والصبر على أذى المهام، فسيبشر صاحبه بالنجاح، أو الرضا بشرف المحاولة، وإن (قرّر) أن ينحني لهمسات النفس ووساوسها، فسيرى نفسه داخل حياة بلا ألوان، وربما لوّنها بخيالاته الجميلة عما يفترض أن يحصل له، وما يرى أنه يستحقه من مراتب عالية في حياته، وسيبدو بقية عمره وكأنه فاشلٌ يهذي بالنجاح، وسيفاجأ الإنسان أن العمر يمضي عليه كلمح البصر، ويشيب رأسه ويمضي قطار الحياة نحو المغيب، وهو لم يزل على حاله، ركونٌ للدعة، وتركٌ للتكاليف، وخيالات يلتذ لها تعوّض ما ينقصه بتهيؤات الأماني.

وكل إنسان له تجارب نجاح في حياته، حتى الذين يعانون من كثرة الانسحاب من المهام، ولو راجع ذكرياته مع تلك النجاحات هنا وهناك (مهما استقلّها)، لوجد شخصية أخرى له غير ما اعتادها، فقد فكر وقرر وصبر.. فظفر، هذه هي ذكرياته عن ومضات النجاح تلك في حياته، ولن يختلف الأمر مع المهام الأخرى التي صنع العكس معها، فخلّفته الأيام متحسرًا مهمومًا، وغير راضٍ عن حاله، وظمآنٍ دومًا، ولن ترويه الأماني والخيالات، لأنها كماء البحر.

ازجر همسات النفس، وقرر أن تصبر، واستمر على ذلك، مع الدعاء، وكثرة الذكر والاستغفار والمحافظة على الصلوات ومداومة قراءة القرآن، وستتحسن الأمور بإذن الله، هذه وجبات رئيسية لاستمرار الحياة بجودة أفضل، وتأمل معي دقة ما قاله الشاعر:

والنفسُ راغبةٌ اذا رغّبتها *** واذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقنَعُ

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال