جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة




(كان نافع بن الأزرق ينتجع عبدالله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في تفسيرها، فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة). - محمد بن يزيد المبرد، الكامل.

*           *           *

من سلك طريقًا في طلب العلم، سيمرّ في بعض اهتماماته كتيّبًا صغيرًا اسمه (سؤالات نافع بن الأزرق لعبدالله بن عباس رضي الله عنه) وابن عباس غني عن التعريف، حبر الأمة، ذلك الفتى الذي وفقه الله لتجهيز الوضوء للنبي عليه الصلاة السلام، والذي كان قد ذهب للخلاء، فلما خرج رأى وضوءه جاهزًا له، فسأل عليه الصلاة والسلام: «من وضع هذا؟» فقيل له أنه عبدالله، فدعا له سيد البشر عليه الصلاة والسلام قائلًا: «اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التأويل»، وقد كان، وسيرته حافلة بالعظائم والكرامات، كسيرة كبار الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا.

نال نافع بن الأزرق في شبابه فضل التتلمذ على يد صاحب رسول الله ﷺ، وحبر أمته، وفقيهها، وهي من خيالات الأماني عند المحبين لرسول الله ﷺ، ولصحبه الكرام، فتخيّل أنّك تثني ركبتيك عند قامة كابن عباس، ونال من ذلك فضل إظهار (منهجٍ) جديد، وهو شرح ألفاظ القرآن والاستدلال عليها بما جاء في شعر العرب، وهو منهجٌ لم يكن معروفًا قبل إجابات ابن عباس على سؤالات نافع بن الأزرق، وقد كان ابن عباس رضي الله عنه عالمًا بشعر العرب وأنسابهم وتاريخهم، وهو القائل: «الشعر ديوان العرب»، وصار لهذه السؤالات مكانة تاريخية علمية في مجال تفسير كتاب الله تعالى، ومرجعًا من مراجع مناهجه، يبحث عنه المتخصصون فيه، ويُعتبر تأصيلًا في مجال طلبه.

فكيف غلبت الشقوة على نافع بن الأزرق وقد كان في بدايةٍ موفّقة، وأي توفيق؟ فالاهتمام كتاب الله، والشيخ ابن عباس، في خير القرون، ولمّا تزل السيرة النبويّة غضّة في عقول معايشيها، والسؤالات أظهرت منهجًا ومنبعًا بقي أثره في شرح ما خفي من حروف القرآن بشعر العرب ليومنا، وتجاوز علم التفسير لغيره من العلوم، وصار أصلًا لغويًا يُرجَعُ إليه بعد الوحي والحكمة؟

كل الظروف المحيطة والبداية الموفقة والزمن المبارك تهيء لصلاحه ورفعته، بل وإمامته في الدين، فما الذي جرى؟

لقد حصل قَطْعٌ لهذا النفع، وحلّ مكانه أمرٌ آخر أنهى سيرة نافع في الصلاح والعلم ولمّا تزل في سطورها الأولى، وانتقل به من رغد الخير، لتعاسة الشقوة، وحين تبحث عن سيرته ستجدها سيرةً طفيفة في سبيل الخير، وستجد مقابلها أمورًا خاضها قطعت هذا الخير الذي كان فيه وانتقلت به لشرّ ما ينتقلُ إليه إنسان، وهو مع كل هذا يظنّ أنه قد انتقل من مَجدٍ إلى مجد، ولفظ أنفاسه ظانًا أنه خيرٌ مكانًا وأعدل جندًا.

ولعلي ألخّص سيرته بهذه الفقرة:

حفظ القرآن، وطلب العلم عند ابن عباس، ثم شارك في الفتنة التي انتهت بقتل عثمان رضي الله عنه، وخلع بيعته لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بعد التحكيم، ومرق مع المارقين عليه، ثم دخل مع ابن الزبير رضي الله عنه، وخلع بيعته له بعد أن أثنى ابن الزبير على عثمان رضي الله عنهما، وشكّل فرقة مسلحة تبرأت حتى من بعض المارقين من صحاب الطريق وجلساء السوء، فلم يُحلّ نكاحهم ولا أكل ذبائحهم، ثم إنه رأى أن كلّ العرب قد ارتدت عن بكرة أبيها، وعلى رأسهم الصحابة والتابعين، واستحلّ في ذلك (الاستعراض) وهو قتل نسائهم وأطفالهم، وهتف علمه الشقيّ هذا بعمله، فاستباح بيضاء المسلمين وفتك ببعض نواحيهم، ثم هلك في حروب الدولة الأموية للخوراج، واتصل أمر أصحابه من بعده سنيّات حتى انقرضوا، وصاروا أحفورة تالفة في التاريخ، تُذكر خلاصة جهوده كفرقة من فرق الخوارج، عادت خير أهل الأرض، وتورّطت الورطة العظمى في دماء مسلمي خير القرون، ثم اندثرت، وصارت أسطرًا في كتب العقائد المنحرفة والتاريخ الدموي، فشرٌّ مكانًا وأخبث جندا.

ولو تأملت، لرأيت أنّ أوّل فتنة هذا الفتى هو تلك التصوّرات التي غزت أشباهه من جيله حول خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ملاحظات مالية، وإدارية، شغّبوا فيها على خليفة رسول الله ﷺ، المشهود له بالجنّة، المأمور من النبي ﷺ بعدم نزع رداء الخلافة لهؤلاء الأوباش، المبشّر بالشهادة، وسلكوا في ذلك مسلك أشقاهم، وخطيبهم، وأحد قياداتهم في هذه الثورة، ذي الخويصرة، الذي دخل في صِدام لفظي مع سيد البشر عليه الصلاة والسلام حول قراراته في توزيع الغنائم، في تلك الحادثة الشهيرة التي نتج عنها إخبار نبينا ﷺ عن خروج أقوام على شاكلته.. وهم الخوارج.

ومع أنّ ذي النورين رضي الله عنه قد تنزّل لهم، وحاورهم، واستعتبهم، وتعطّلت أعمال الخلافة بتشغيبهم، إلا أنّ الشقاء إذا وافق هوًى، ونفسًا خبثت بالعناد والغرور، وردّ المواعظ وبدهيّات العقل؛ لا انفكاك عنه غالبًا. فأبوا عليه كل حججه، وكانوا سهمًا منطلقًا على أية حال؛ فقد استلذّوا الفتنة، وحسن مذاقها في نفوسهم، فلم يفارقوه حتى قتلوه وهو يقرأ القرآن داخل حرمة بيته وأمام امرأته التي كانت تردّهم عنه. ولك أن تتصور عظم جريمة (طالب العلم) هذا، حين تستحضر أن النبي ﷺ دعا بألا يغفر الله لأحد جنود القبائل الموالية له، بعد أن قتل شخصًا سلّم عليهم، واحتجّ بكونه إنما سلّم تقيةً، وفوق هذا أبت الأرض أن يدفن فيها هذا القاتل بعد أن توفاه الله بعد الحادثة بليال، فدفنوه ثلاثًا، وأخرجته الأرض ثلاثًا، فلم يجدوا مخرجًا لهذا الموقف الغريب إلا أن يضعوه بين جبلين، ويردموا الحجارة عليه، ولما أخبروا خبره للنبي ﷺ قال:«إن الأرضَ تقبل من هو شرٌ من صاحبكم، ولكنَّ الله أراد أن يعظكم» وفي رواية: «ولكنَّ الله أحبّ أن يرِيَكم تعظيمَ حُرمةِ لا إله إلا الله»، فما هو حال هؤلاء الأشقياء بالله عليكم وقد قتلوا ذي النورين وثالث المبشّرين؟

كان يصنع ذلك، وزملاؤه في التلمذة على ابن عباس، لم يرفعوا في الفتنة رأسًا، وبقوا مع حبر الأمة يعرضون القرآن عليه آية آية، ويكررونها، ويشكّلون معه اللبنات الأولى لأعظم تعاليم الإسلام، كطاووس، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، والضحاك وغيرهم، فخُلّدت أسماؤهم في طبقات التابعين، ووثقهم كبار أهل العلم، وأهّلهم ذلك لتتوج أسماؤهم في أسانيد الإسلام الكبرى، التي استندت عليها متون الدين، والوحي الأمين، يرثون أجرها وفضلها ما بقيت أمة الإسلام. مضوا على ذلك دون التفات لبنيّات الطريق، والتي لم تكن في زمنهم مجرّد بنيّات، بل السبل الأولى لكل الفرق الغنوصية والإجرامية الفاجرة، والتي خلاصتها لمن شارك فيها أنّها وَرْثٌ من ضلال، ورّثوه بعض الأمّة جيلًا بعد جيل، أوزارًا يحملونها ليوم القيامة، ونقرًا نقروه لإبليس وأعوانه، لمّا يزل يلج منه حتى يومنا هذا.

فأنت هنا أمام سيرتين لشخص واحد، وخلاصتين لروح واحدة.

سيرةُ نفعٍ.. وسيرةُ قَطع.

أما سيرة النفع فقد خُلّدت كحسنةٍ لشخصٍ حالَ أمره إلى فجور، وقد قال ﷺ: «إنّ الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».

وأما سيرة القطع، فقد قطعته عن الخير ابتداءً، إذ انصرفَ عنه، وملأ يومه وليلته بهمّ الفتنة، واستبصاراتها الإبليسية، والتي كان يظنها دينًا، وحقًا، ونصرًا، وعِزًّا، فتدّرجت به حتى تورّط بشرّ ما يتورّط به مسلم، وحتى تلبّس بالفجور، ونُقلت سيرته من تلك الصفحات التي خُلّد فيها زملاؤه في الطلب، ونقلته في كتب العقائد والملل كرأسٍ من رؤوس الضلال والشرّ والإفساد.

وليس هذا بنموذجٍ وحيدٍ في سيرة الخوارج الأول، فأشباهه من صحبته في الشرّ كثير، ممن كانوا في طريق الخير والعلم، أو الانصراف لما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ولو الخطوط العريضة منها، كأركان الإسلام، وطلب الرزق الكفاف، لكن اجتذبتهم الأهواء، وسُرقت جهودهم وتزكيتهم الأولى لأنفسهم.. وألقي بها في مهاوي الرَّدَى.

*          *          *

من استوعب ما سبق، فليستحضره في زماننا، مع الجماعات المنتسبة لهذا الدين، المتمسحة بشعاراته، وسيرى في أفرادها ملامحًا واضحة لسيرة النفع، وملامحًا قد تغمض كونها حاضرًا معايشًا لسيرة القطع، واللبيب من لا تنطلي عليه سيرة النفع، فتؤدي به لتزكية سيرتهم المقطوعة من الخير، المتورطة بشرّ الأمور، فضلًا عن انتهاج سبيلها، وسلوك دروبها.

العلم الشرعي، مواجهة الملل والنحل الضالة، مؤلَّفٌ في أسماء الله تعالى، كتابات عن القرآن وأسراره وفضله، مواجهة موفّقةٌ للملحدين، نفعٌ واضحٌ وصريح كما كان حال نافعٌ في سؤالاته، في التفسير، في الحديث.. إلخ. كلّ هذه خيرٌ، ينتفع المسلم به، لكنّه يصير هلاكًا إذا تجاوز الانتفاع به إلى تزكية الكوارث التي اختطفت بعضهم للتورط في أمورٌ جعلت لكلامهم في الفتن، وفي تصوّراتهم الخاطئة أو المشوّشة عن الواقع، حصيلةً سفكت دماء، وأشعلت ثورات، أو زادت في اشتعالها، وزكّت أصحاب مشاريع لا تريد ببلاد العرب خيرا، ولا بأهلهم، وكان هذا سمًّا زعافًا بين أوعية العسل.

إنّك لترى في ملامحهم الطمأنينة مع متون الخير وهم يتلونها، والخير أثناء نقلها وتأصيلها، لكن ما إن ينطق لسان أحدهم بأمور الواقع كما أُشربته قلوبهم من مناهج تلك الجماعات حتى ينقلب لحالٍ أخرى، لا ترى فيها إلا استيلاءً للشياطين على لسانه، ويتحول لداعية سوء يفصل بين كلام الحقّ بأحاديث تُلقي بكلّ من يُحسنِ الظنّ به ويتبع معانيه في مراحل القطع والورطات، ويُبنى على ذلك أمورًا عصمه الله منها حين كان أقوال تخصصه ومباحثه، كالتناقض، والازدواجية، والهمس بالفتنة، والتصدر لما لا قبل له به، ومخالفته للأنظمة في دولة مسلمة، وانقطاع نفعه الحقيقي الملموس المتصل بسند النفع الفعلي لعلماء الأمة وخيارها، وهبوط حاله في دركات المخالفين لسكينة المجتمعات المسلمة.

فلا غرابة أن ترى من يتفنن أيما تفنن في شرح حديث من الأحاديث، ثم ترى له مقطعًا آخر يُقسّم فيه أهل الكنانة لحق وباطل، ويحكم بأنّ ديار الإسلام موطن (رباط)، وأن قتال المسلمين فيها بين بعضهم موضع رفعة، وأنه جهادٌ واجب، الفارّ عنه فارٌّ من زحف، وتكون النتيجة الحتمية لذلك تورّطه الشخصي شرعيًا وقانونيًا بالدماء والفتنة، وتجاوز الأحداث لكل تنظيراته ووعوده وبُشرياته، ودوران عجلة التاريخ الكبرى، ويكون نهاية الأمر أنّه كان في عافية، فنزع رداءها في حدثٍ لم ينتج عنه إلا ورطات كان في غنى عنها، وحلّت فيها سنن القطع، وانعدام النفع، وبقاء الوزر.

ولا دهشة من أن ترى من يُبدِع في ملفّ من الملفات الشرعية، كالإفتاء، والفقه، أو الوعظ، ومواجهة أهل الضلال من بدع أو إلحاد، ويحمل في حديثه حولها حقًا ونورًا، ثم تراه قد انغمس فجأة في فتنة العراق أو سوريا، فبدأها بالهجوم الدنيء على العلماء الذين حذروا من مغبتها، وتورط في أعمالٍ موازية خارج إدارة ونظام دولته المسلمة، فذهبت أموالٌ عن طريقه أو بتوصياته، وتبعها فتيان عن طريقه أيضًا أو تأثرًا بمجموع نشاطه وأشباهه، وقد وعدوهم بكلّ وعود القرآن والسنّة، وبشّروهم بما هو في منزلة بُشريات المرحلة المكية، وبدر، والخندق، ودارت الأيام كما دارت على نافعٍ وزمرته، فتبخّرت كل الوعود، وبدأ بعض هؤلاء في أيامنا يجحد قول لسانه، وصراخه في أوقات خلت، ويتبرأ من عمل يديه، بل والله رأيت فيهم من يدّعي عكس ما قاله، وبين هذا وذاك، ذهبت دماء، وأموال، هباءً منثورا، واتضح مبالغة بعض التصوّرات، وجرأة الوعود والتألي على الله، حتى رأيت في الأسابيع الأخيرة من كان يبشّر الأمهات عبر الفيديوهات بعمليات أبناءهن الانتحارية لقتل أنفسهم وغيرهم، وكان يعلو صوته يومًا بالبشرى ببيعة فلان وعلان، وإمارة جماعة كذا- وهو يتسوّح في شوارع إحدى الدول السياحية، في لقطةٍ لم يَعلم بها، ولم تنتشر باختياره، وقد كان يوحي في كل ظهور سابق له، أنه جريحٌ، ويعرج، ومصابٌ لا يمشي إلا بعصا من أثر (الجهاد)، ومستمرٌ في أرض الرباط.. نسأل الله السلامة والعافية.

فإذا أُخِذ على أيدي بعض هؤلاء، وحوكموا على قول قالوه أو فعل فعلوه، استنجد صحبهم بسيرة النفع، وأخفوا سيرة القطع، كسبب غير صحيح للأخذ على أيديهم، كأنهم كانوا في خلوات عن الفتن، كما كان سلفنا الصالح، وفي انكبابٍ على ما صفا نفعه من علوم. وهذا وإن كان نوعًا من التحايل على النفس، ومحاولة مثيرة للشفقة لأجل خداع الغير، وهي سِمَة أهل الضلال، لا أهل الحق؛ إلا أنّها اعترافٌ ضمنيّ بانقطاع كل جهدٍ صبّوه في الفتنة، وكلّ رأيٍ رأوه في واقعٍ بالكاد تتصوره الدول، وأن الباقي والخالد هو ما كان مطلوبًا منهم بدايةً ضِمنَ علمهم وقدراتهم وأدواتهم، وليس ما صوّرته الأحزاب السبئية لهم وربّتهم عليه وبرمجت عقولهم على أن هذا هو المطلوب من واحدهم مما هو مؤهّل له بمجرد (الوصول) بعد الطلب، فتجعل طالب العلم متصفًا بصِفةٍ فُرِّغت من معناها القرآني في قصص الأنبياء والتوحيد، وجُعِلت جامعةً لصلاحيات أركان الجيوش، ورجالات الاستخبارات، ووزارات الخارجية، وغير ذلك، وهي صفة (الإصلاح)، وهو مصطلحٌ خلاصته مخالفة الأنظمة والقوانين الأمنية بالعمل السرّي، فتراه يهمس في المجتمع، ويتسلل في المؤسسات، كحال اللص، ومروّج المخدرات، والمتحرش.. وغيرهم.

وصار المعنى القرين لعدم فصل الدين عن السياسة عند هؤلاء، هو مجرد الاطلاع في مجال السياسة، سواء اطلاعًا إجماليًا أو تفصيليًا، ثمّ بلا صلاحيات ولا أدوات؛ يُفترَضُ ويُتوقَّعُ منه أن يحكم على الأحداث الكبرى، وإدارة شؤون الدولة، ولو كان الأمر بيده لسيّر لها الجيوش (ولنقل الميليشيات، إنشاءً وتسليحًا!)، ويَجمع لها الأموال، وهو في ذات الوقت جاحدٌ لواقع سلطةٍ تحكمه بالأمر الواقع الذي يراه رأي العين، غير معترفٍ اعتقادًا وقولًا وفعلًا بعلوّ يدها، ولا واقع وجودها، ولا إحكام سلطتها، ويتصرف ككيانٍ موازٍ داخل الكيان الملموس، وهو الدولة، التي تحفظ واقعًا وتاريخًا الضرورات التي جاء الإسلام بحفظها، فكل ما يراه (المُصلح) ذا الصلاحيات غير المحدودة.. هو التصرف الأمثل، وما سواه، فباطل يعيق حقّه، وظلمٌ يصدّ عدله. أقواله امتحانٌ يزكّي الإنصات لها وقبولها من عَدَمِه الحكومات والشعوب أو يشيطنها، وطلباته أوامر، وهذا إلى الجنون أقرب، والأحداث أمامنا رأي العين، شاهدنا فيها البدايات. والأسباب، والنتائج، وحفظها التاريخ صوتًا وصورة، وأحبار التاريخ القريب لم تجف، وقد كتبت بمداد الدماء.

وقد علّمنا نبينا ﷺ أنّ الحقّ قد يُؤخَذ من الشياطين «صدقك وهو كذوب»، فلم يزكّ صِدق الشيطان في تعليمنا أحد أفضال آية الكرسي بقيّة سيرته في إضلال الخلق، هذا معلومٌ بالضرورة، ومسألة لا تحتاج إلى طول تذكير، لكنّ مثيلاتها في الناس يملؤها الغموض، واعتلاء الغبار، والكثير من التشويش، عند الشباب والصغار، حين يرون حقًا ناصعًا، ينطقه رجلٌ ذاكرٌ ومبتهلٌ، عليه سمات الصلاح والخير، وينبع الصدق من حديثه، فيخلطون نشاطه في الحق، بارتفاع رأسه في الفتن، وهذه كانت ولا زالت سِمةُ الجماعات والميليشيات المتمسّحة بالدين منذ نشأتها، فإذا قبلت (الرجل القرآني) فلماذا لا أقبل (جاهلية المجتمعات)؟ وإذا سعدت بـ (أعمال القلوب) فلماذا لا أسعد بطوام (المسلمون والحضارة الإسلامية) والتي لا يقول بعض ما فيها إنسان يجمع إسلامًا وعقلًا؟ وإذا أُعجِبتَ بتغريدة ذاك الشيخ عن (فضل سورة الإخلاص) فلماذا لا تَقبل تغريدته عن كون الأمة ساقطة، وأنها لن تنهض مطلقًا إلا على أشلاء شعب الشام ومصر؟ وإذا عَرفتُ جهود ذلك الداعية في الصدقات، فلماذا لا أقبلُ مقولة (فليموتوا) عن مليون مسلم، وكأنهم أضاحي العيد؟ وإذا قبلتُ كتاب طالب العلم في شرح بلوغ المرام، فلماذا لا أقبل مقولته حول كون السعوديين فاسدون حتى في عبادتهم؟ وإذا أعجبتني تدبّرات ذلك الشيخ في القرآن ومشروعه فيه، فلماذا لا أقبل كلامه حول أن غالبية شعبنا إنما قام ببعض المعاصي استحلالًا لها؟

إن من أهمّ الأمور التي يجب أن يستوعبها الشاب المسلم في زمننا، أن الداعي على أبواب جهنم، ليس شرطًا أن يكون بوضوح من يأتيك لتكفّر أمهات المؤمنين وخيرة صحابة الأمة رضوان الله عليهم، ولا ببجاحة من يأتي لك بقصصه الخرافية المنسوبة زورًا للعلم عن سيناريو آخر لقصة الخلق كنّا فيه بكتيريا ثم سمكًا ثم زواحف ثم أشباه قردة، فلا آدم ولا حواء، ولا بغنوصيٍّ كانت باطنيته غموضًا فصارت في زماننا قبرًا يُسجَدُ له، وصعلوكًا خبيثًا بعمامة يرقص المغفّلون أمامه ويتباركون بإفرازاته. بل قد يأتيك داعية الضلال بباطلٍ بين حقين، يشرح حديثًا، ويكفر مجتمعًا، ثم يجلس يحدثك عن اسم من أسماء الله، أو يؤلف في الرد على ملحد، ثم يعطي أحكامًا عامة عن الكفر بحدود الدولة، وأن الوطن وثن، وما يبنى على ذلك من إلزاماتٍ كلّ واحدة منها مِعوَل هدم، من تكفير الحكام، وأعوانهم، والجند، بشكل مباشر كما هو عند الجماعات المسلحة، أو بأسلوبهم غير المباشر والمؤدي بالضرورة إلى كل تلك النتائج في أذهان خريجي محاضنهم، حتى قُتِلَ بعض جنودنا وهم ساجدون راكعون، مرات ومرات، ثم يعود بعدها ليسبّ لك ملحدًا أو قبوريًا كأنّه لم يصنع شيئًا.

لو كان هؤلاء بوضوح أولئك الذين لم يكونوا واضحين في بداياتهم التاريخية، لما كان هنالك أية مخاوف منطقية من الدعاة على أبواب جهنم، ولا في تحذيرات سلفنا وأئمتنا الألى من مثل هذا التقلب اللحظي في التصدر لقول الحق الناصع، ثم التصدر لقول ما مقتضاه الهلاك المبين والفتنة العمياء، ثم العودة لكلمة الحق، ثم رفع الرأس بالفتنة.. وهكذا، ولا احتجنا لتلبيس إبليس، ولا لإغاثة اللهفان، ولا إلى ما صحّ من أحاديث حذيفة رضي الله عنه في الفتن وتجنّبها.

*          *          *

كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: «إن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق»، وهذا كذلك من التلبيس الذي نراه في زماننا، ويتعلق بهذا السياق، فقد ترى بعض المخالفين من ملحدين أو باطنية يُنظّرون عن مواضع الهلاك في أطروحات تلك الجماعات المتمسحة بديننا، ويُنتجون لذلك مؤلفات نافعة، أو مقالات موضوعية، وحالهم كحال أولئك، فلا الحق الذي يقولونه يزكي ما سوى ذلك من طرحهم الشهواني أو الملحد أو المنحرف عن جادة أهل السنة، ولا يوثّق دوافعهم المنهجية والفكرية للانتقاد، ولا عداؤهم لأولئك يجعل تلك الجماعات في خانة الحق، ولا كونهم مخالفين يعني أن نردّ ما قالوه من حق.

وقد رأيت فيمن مرّ عليّ في الشبكة مَن لم يختلف حقيقة رأيه الأوليّ عن آراء الجماعات فيما يتعلق بالواقع، فهو ابن محاضنهم، ورفيق دربهم الأوليّ، لكنه لم يمدّ في الفتن يدًا ولا رفع رأسًا ولا أنطق لسانًا، وربما كان ذلك خوفًا أو تركًا لـ (وجع الراس)، بل التزم مجاله، يؤصل فيه، ويبني المشاريع، وكان ذلك عاصمًا له من التورط في عواصف عصفت بالمجتمعات حينًا من الزمن، لا بشكل مباشر ولا غير مباشر، فلم تزد الأيام نفعه إلا توسعًا، ولا مشاريعه إلا إنتاجًا، فإن كان لا زال في دواخله من لوثات مناهجهم، فهو داءٌ مخبوء، استعاذ منه بالتحرك في حدود ما يمكن، ونجا من آثاره بالتقيد بما يتقن، وقد رفع الله بمنه وكرمه الأغلال عما يعتلج في النفوس، وضمن به استمرار الخير، والذي كان حافظًا له بدايةً، ثم كان نجاة لمن يتأثر به ومن هو بين يديه.

أما من انساق وراء خواطر تلك المناهج، فقد زاحم شرّها خيره، ونزع رداء العافية، وغلبت عليه الشقوة، حتى انتهى إلى شرّ حال، وأكثرهم حظًا، من أُخِذَ على يده ليُكفى شر نفسه، أو من عاد للمربع الأول، وهو النفع بما يجيد، والذي غاب عنه زمنًا تلاطمته الأمواج، وعاد يترنّح، مستنجدًا بسكينة الوحي، وطمأنينة الباقيات الصالحات، فاللهمّ نجّنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
تعليق واحد
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

  1. نعوذ بالله من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن
    ونسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه
    بارك الله بقلمك وعلمك

    ردحذف

إعلان أسفل المقال