بلغت في الأيام الماضية سنّ الأربعين، وخطوت آخر خطواتي الثلاثينية.
هنالك بعض من لا يحفل بهذه الأرقام، ويعتبر العمر كتلة واحدة، ويتعامل مع متغيّرات الحياة كلًّا على حدة، وفي لحظتها.. وبجفاء، ويستسخف الحديث عنها، وهو رأي، لكنّي مع عموم من يحتفي بأرقامها، من العقود، للسنوات.. للأيام.
الثلاثينات سنّ المسؤوليات والأشغال، كان يقال لنا في العشرين ستشتاقون لأيامها، وقد حصل، فالعشرين خليط من لذّة مع طاقة مع قلّة مسؤوليات مع استمتاع كبير بمستجدات الحياة (وقد كنّا في مراحل المستجدّات المبهرة بحق)، والثلاثين لذة مع مسؤوليات متوسعة اجتماعيًا ووظيفيا مقابل طاقة فقدت بعضها واعتياد يُبهت ما كان يُدهش، فقد كانت الحياة جديدة، كلعبةٍ فكّها طفلٌ وأخذ يتأمّل زواياها وأبعادها وتفاصيلها وقد امتزجت الدهشة باللذة، كنت في طفولتي أقرّب عيني من كل ورق مطبوع، أرى اختلاط الألوان ببياض الصفحات مندهشًا منه، ومستلذًا برائحة الطباعة، يوم كان لأحبارها رائحة، وأتأمّل نقاطها المجتمعة لتشكيل الحروف والرسومات حتى كأنها محيط أسبح فيه، وكذا الأمر إذا اشترى الأهل ساعة حائط، أو زينة منزلية، وكنتُ إذا رأيت صورةً لمشهد جميل من دول أخرى، أو مناطق نائية عنا من بلدنا، وتختلف عن مناطقنا، نسمع أسماءها ولا يدلّ عليها شيء من حولنا، فلا انترنت، ولا قنوات، كنّا ندهش غاية الدهشة من منظر الحدائق الخلابة، والقصور الرابضة على تلال مزيّنةٍ بألوان الربيع، حتى إن الصور كانت تختطفنا من واقعنا، وما نقص فيها من دلالات ومعاني وأحاسيس، نكملها بخيالاتنا الغضّة، ولم يختلف الأمر كثيرًا في العشرينات، فلم تزل الحياة تحفل بالمفاجآت، غير أنها اتّسعت، وبدأت تُشكّل الأساسات الأولى لما يبنى عليه مستقبلك، بياضه وسواده.
أما في الثلاثين، فوقت المشاعر المدهوشة يقلّ، وتظهر كاحتفاء بسيط، ثواني معدودة، كأن المشاعر اعتادت سيناريوهات كل جديد، وتعلّم الإنسان من تجارب أول العمر أن الجديد يُعتاد، وأن السكرة ستعقبها الفكرة، فهو أكثر حذرًا من مشاعر الدهشة بالجديد، لأن بعض تلك التجارب علّمته أنّ هذه المشاعر قد تكون فخًا له جنايات على الوقت والمال والجهد، وهذه سنّة من سنن الحياة، وليست عدميةً، أو زهدًا متكلّفًا.
ينمو الإنسان في طريقه نحو الأربعين، وتنمو معه عوائل مجايليه من عائلة أو قرابة أو صحبة.. إلخ، وتنمو معها المناسبات والارتباطات، وتبدأ تقرأ في ملامح أصحابك الأخاديد الأولى والشعيرات البيضاء الأولى لسنّ الكهولة، ويبدو جيلك من حولك أكثر تعلّقًا بالدنيا الواسعة، ومن عوّد نفسه الصبر والجدّية في أول شبابه، أثمرت جهوده في العشرينات وما قبلها عن خير عميم، ومن ركن للكسل حينها، ركن له أكثر في طريقه لمنتصف العمر، وصار كعربة مركونة جوار طريق العمر، وقد نمت فيها الحشائش واكتست بالغبار، يتأمل راكبها المارّة، والساعين فيما ينفعهم، ويأخذ من النجاح الدنيوي والأخروي خطوطه العريضة، وقد يئس من التزوّد بما يفوق ذلك.
تستوعب في هذه السن أهميّة العمل بأسباب الصلاح والرزق، فهو الأصل الذي يثمر، وهو سنّة الله في الحياة العامة والذي لا يستثنى منها إلا دعوة مجابة وحظّ مقدّر يفجأ صاحبه في طريقه، ومن كان يتمنّى وهو راكن للدّعة؛ سيقطف ثمار أمنياته علقمًا وعدمًا وحرمانًا.
لكن أثمن مافي هذه المرحلة هو عدد الدروس والعظات التي تقرأ صفحاتها، فأبناء جيلك سلكوا الطريق معك، وعايشت قرارات بعضهم في شأن أمرهم وعلاقاتهم بالناس، ورجال وكهول طفولتك صاروا شيوخًا ومسنّين، وكل واحد منهم أخذ يبتلع آثار ما قام به في عمره، فأصحاب التجارب الإيجابية والسلوكيات القويمة ذاقوا خير ما قدموه، حتى في ابتلائهم بصحّة أو ولدٍ أو مال، ستجدهم متزمّلين بالصبر الجميل ومتدثّرين بالسكينة، وأما أصحاب المظالم والمكايدات وانفلات السلوكيات، فهم في شرّ شيخوخة، لا تتمناها لعدو، وتشفق على الصديق منها، وهذا الغالب، فالظلم وجبة حنظل يطبخها المخذول لنفسه، تلسع حرارتها المظلوم لحظةً من الدنيا، ويبتلعها الظالم دنيا وآخرة، حتى تنسيه مرارة طعمها لذّة الثمار الوقتية لظلمه.
هذا فضلًا عن قراراتك، واختياراتك بعد سنّ التكليف مرورًا بسنّ الشباب وبداية الكهولة، وما أثمر بعضه من منافع، وما أنتج البعض الآخر من رديء المحاصيل، وآخر لا عوائد منه ولا منتوج، وقد راهنت فيه على ما كنت تظنّه حصانًا رابحًا، فإذا هو ليس في الميدان أساسًا، ولا حصانًا، بل كائنًا آخر.
يأتي بعض النضج نهاية الثلاثين، بعد أن تتلقى صدمات الدروس، كبطل روايةٍ ما، اكتشف أن من كان يظنهم أصدقاءه طوال الوقت والأحداث، لم يكونوا كذلك على الحقيقة، وهذا ما سيدركه سالك الثلاثين في بعض علاقاته التي جمعها، وفي حساباتٍ مالية ووظيفية جانب اختيارها أو التعامل معها التوفيق، وفي أفكارٍ كانت تملأ عقله ووعيه وعاطفته، ثمّ تبخّرت وصارت ذكرياتها كذكريات صحيحٍ أفاق من أجواء مرضٍ أحاطه زمنًا طويلًا، كأنه قد صحا من أحلام وكوابيس، وفي بيئات كنت تحسب لها ألف حساب، فإذا هي صَرحٌ من وهم.
وحتى بعض جسدك، والذي كان يصبر على انفلات حركتك وطعامك، سيجلس معك جلسة أبٍ لطيف مع ولده، يعاتبه بالكلام و(العقال) في يمينه، فإن لم تنتصح، أتتك (لذعة) تحمل رسالة: انتبه! ففي المرّة القادمة لن تكون مجرّد (لذعة). فمفاصل قدمك، وغضروف ركبتك، وأوتار ساقك تقول لك: ودّع النزول السريع مع الدرج يا كريستيانو، ومعدتك ستعاف السكّريّات والمقالي، مهما تنادت لها خلاياك الذوقية، وستلاحظ أنّ تعبك من قلّة لياقتك في الثلاثين أشدّ من تعبك منها قبل ذلك، وسيبدوّ لك أن لحم جسمك وأحشاءه في تخاصم، بعد أن كان ممتزجًا ومتلاحمًا منذ طفولتك وفتوتك وحتى عشرينيات العمر، حين كان يتآزر ويشدّ بعضه بعضا لمساندة حركاتك ونشاطك، لكنّ علاقاته ببعض ستتوتر في طريقك نحو الكهولة، فالعضلات قد تترك عظامك وحيدة في موقف ما، تتلقى الصدمات، والأوتار والأعصاب تنكص على عقبيها في مواقف أخرى، وتترك الغضاريف والمفاصل في معارك غير متكافئة، كأنّك تعيش أوّل بروفة لأواخر الكهولة.. مالم تتداركها بحميات ورياضات.
وسيبدو مزاجك أقل ترحيبًا بمفاجآت المواعيد، وقيامك من السجود للوقوف بدأ يطول قليلًا، والرياضة تحوّلت من كونها رفاهية واقتراح، إلى ضرورة تحافظ بها على مكتسبات جسدك وعقلك، ووقاية من عصاباتٍ فيروسية ومناعية تتنظر السالكين في بواقي الطريق، غير أن الحقيقة الواضحة لديّ أن الأربعين شباب الستين، كما أن العشرين شباب الأربعين، لذا كثيرًا ما يعبّر كبار السنّ عن زمن الفتوّة بـ (أوّل عمري)، وبزمن الثلاثين وأول الأربعين بـ (أيام شبابي)، وهذا مكمّلٌ معنويّ (عضويّ) لأصحاب منتصف العمر، ليفرحوا به قليلًا.. حتى إشعار آخر.
ستشعر ببعض الحزن، بل بالكثير منه، ولعله سيكون سمة ثابتة من سماتك، تقفز للمقدمة أحيانًا، وتتأخر أحيانًا أخرى، إذ تحسّ بأنّك قد أغمضت عينك لوهلة، فانطوت فيها صفحات، ومرّت فيها أحداث، فما تفتحها من رمشها حتى تكتشف أن (ذاك الحوش)، قد استضاف صفًّا كاملًا أو شبه كامل من جماعة المسجد، ومن (شبّات) كانت عامرة بأصوات وضحكات لم يعد لها وجود، وستجلس في الولائم تتأمل المكان، فإذا جيلٌ قد حلّ مكان جيل، وكان يقال لك (فلان) فإذا أنت (أبو فلان)، وبعد أن كانت كنيتك نداء مازحًا من أصدقائك، صار وسمًا ووشما لا انفكاك منه، وسترى أنّ ألفاظًا كانت تعمر لسانك بكلّ سرور، قد ولّت بلا رجعة في هذا الدنيا، فلا المزيد من كلمة (يبه) ولا (يا جدي) أو (جدّتي) ولا (عمّي)، ولن تنادي (أبو فلان)، ولا (أبو علان) من جيران وأقرباء وجماعة في المجالس، وقد تتأمل يومًا، فتزورك ذكريات جمعتك يومًا ببعض أحبتك ومعارفك، وتستوعب أنه لم يبق من جلسائك فيها أحدًا، وأنّك كنت فيها من أهل الدنيا، وتجالس ثلاثة أو سبعة رحلوا لآخرتهم، فهم تحت الثرى، يرجون رحمة الله، ثم دعواتك لهم وصدقاتك عنهم.
وبالنسبة لجيلنا وأجيال قبلنا بطبيعة الحال، والذين اعتادوا يومًا تدرّج جودة الصور والفيديوهات، فما أسهل عليه أن ينسب الصورة والفيديو للتسعينات أو الثمانينات أو لأجيال النوكيا، سيبدو غريبًا عليه وهو يرى بعض من رحلوا في سنيّات قريبة، وهم موثّقون في فيديو بجودة HD، أو صورة بجودة عالية الدقة، أو تسمع أصواتهم في محادثات الواتساب، ويكأنّك قد قمت عنهم منذ ثوان معدودة، فتكاد تردّ على رسائلهم، وتسائلهم عن طول الغياب، فهذه الوسائل ذات الجودة العالية في العرض، وطول الحفاظ عليها بلا تشويش أو انخفاض للجودة؛ لها مشاعر خاصة يصعب معالجتها، وتخلّفك حيران أمامها.
أما الأرقام المحفوظة في هاتفك، فستدهش من كونه قد صار متحفًا للأموات، وللعلاقات، وربما بعض الأحداث العرضية، فضلا عن أسماء لا تدري من أي سماء سقطت، لكنك متيقن بأنّ الدنيا قد جمعتك بأصحابها يومًا، وإن نسيت أين؟ ومتى؟ ولماذا؟
وستكتشف حينها حقيقة بعض المعاني التي كان يكتب عنها الكهول، ويبثّ همها الشيوخ، وقد لمحتها اليوم في نفسك وروحك، فقد كانوا يقولون أن القلب يشيخ، والروح ترهق. ولعلك تجلس يومًا في مقهى مع صحابك جوار شباب عشريني، وتقارن حالك مع صحبك بحال أولئك، وتحدث نفسك: كنت هناك، وكنا بمثل هذه الحيوية في اقتناص الأحاديث وجمع ألوان الدنيا حتى كأنّ اجتماعات الشباب لحظات حاسمة من أولها إلى آخرها، فكل قصّة تدهش، وكلّ اكتشاف يبعث اهتمامًا، فلا فتور، ولا حذر، ولعلك لا تحبّذ هذا المشهد بتأثّر من مرحلتك، وتعتبرها قلّة استقرار، وكثرة انفلات، وربما طيشٌ ينتظر شرًا، والأكيد أنه لا خيار لك، وأنك هنا، وهم هناك، عوالم متباعدة تجمعها الدنيا، وتفرّقها الأجيال.
قرأت عن أزمة منتصف العمر، وقد كنت أتساءل عن ماهيتها، وما طبيعتها، ولماذا نسبت لمنتصف العمر دون غيره، فإذا هي مرحلة حتمية عند أحياء العقول، وخلاصة المذكور من ذلك، وبطبيعة الحال.. صارت خلاصة التجربة الشخصية؛ أنها أزمة أسئلة، وجرد.. وحسابات، فهناك الكثير من الأسئلة، وإجاباتها عتاب، أو شجى، على تفريط وإفراط، كما أنها منعطف، تحترق فيه المراحل، وتجد نفسك في مكان لا انفلات منه، ولا عودة، قدرًا مقدورًا، وكأنّ كل ما حولك يتفاعل معه تلقائيًا، فثبّتك بمكانك، بالتعامل والوصف، مهما فررت لسنّ الشباب بوجدانك، وبالتشبث به ببعض تصرفاتك، فأنت كما قال أحد الكتاب فوق قمّة لها سفحين، قعرين، قعر صعدت منه، وهو الطفولة والشباب، ويبقى لها علائق في وجدانك، وقعرٌ تتيقن أنّه انحدار في محسوسات الدنيا، ومتوالية انسحابات صحية، وعقلية، ونفسية، وفي العلاقات، والمشاعر.
لذا لعلّه سينزلق لعنٌ من لسانك بلا شعور، حين يناديك بعض الصغار (يا عم) أو (يا خال)، وحين تعبئ بيانات الميلاد في المواقع؛ ستمتعض من طول وقت الوصول لاختيار سنة الميلاد، فقد كانت قريبة الوصول، أما تلك الاستبيانات، التي تحدد المشارك بين عمر كذا وكذا، فستستوعب أنّك قد صرت خيارًا رابعًا وربما الخيار الأخير فيها، لم تعد مع فئة (بين ٢٥-٣٥) بل أنت (فوق ٣٥).. هذه الجملة البغيضة، والتي ربما ستنزلق بسببها لعنة أخرى.
الأكيد مع كلّ هذا أنّك ستكثر من الالتفات للخلف، ستقف مع مكاسبك وخسائرك، واللبيب من يستوعب أن خسائر الدنيا ومكاسبها مرتبطة بفناء، فناء أصلها، وفناء المشاعر حولها، وأن أزماتها (تعدّي) ولو كانت فقدًا، فالإنسان يروَّض بالاعتياد، في أسوأ حالاته، وحتى أشدّ خسارات السنين، ستبهت مع الأيام، وتخلّف معك تنهيدة عابرة بين سنةٍ وأخرى، وأن أشغال الدنيا لن تنقضي، وإغراءاتها لا تزول، كما قال الحسن البصري رحمه الله: «إن الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب» إلا أمرًا واحدًا هو أحق ما يقف الإنسان عنده، وهي مكاسب الإنسان وخسائره فيما يتعلق بما قدّم لقبره وحسابه، وأولها مدى علمه بما هو مطلوب منه، وبما هو نافلة يحسن عملها، ومدى التزامه بالفرائض، وماذا كسب من مواسم خير مرّت عليه، وكل أيام الإنسان مواسم وأوقات خير لو عمل، فالثلث الأخير من الليل وقت خير وبركات إن قامه واستغفر فيه وسأل الله خير الدنيا والآخرة، ووقت الضحى إذا عمره بصلاته وقت خير، وبعد الفجر والعصر إذا قال فيه أذكار الصباح والمساء وقت خير، وأي زمن يتصفح فيه كتاب الله تاليًا ومتدبرًا فهو زمان خير، والمسلم حال سفره ومرضه، وحال نزول الغيث، وغير ذلك، فضلا عن المواسم المحددة، كرمضان، والعشر من ذي الحجة، ويوم الجمعة، والأشهر الحرم عمومًا، وغيرها.
وكل ما سبق ومالم يذكر، سيمزج في عمر الإنسان كوقتِ خيرٍ مرّ عليه شخصيًا إذا عَمَرَهُ بما هو مطلوب منه أو مرغّبًا فيه، وسيصير حين الالتفات للخلف وقت منعطفات الحياة، كسنّ الأربعين، أمرًا يفخر فيه الإنسان، إذ وفّر من شبابه لكهولته، وربما من صحته لمرضه لا قدر الله، ومن سعة وقته لضيقه، وأما الزّلات والذنوب والخسائر، فما أعظم حظّ من بقيت فيه أنفاس يستغفر فيها، ويتوب توبة نصوح، ويمحوها بالحسنات، ويكافح ليصلح ما بقي، فالأمر كما قال ﷺ: «ما مِن عبدٍ مؤمنٍ إلَّا وله ذنبٌ يعتادُه الفَينةَ بعدَ الفَينةِ أو ذنبٌ هو مقيمٌ عليه لا يُفارِقُه حتَّى يُفارِقَ وإنَّ المؤمنَ خُلِقَ مُفْتَنًا توَّابًا نَسَّاءً إذا ذُكِّرَ ذكَر».
فإذا وُّفق الإنسان لهذه الوقفة، وبنى عليها إصلاحات وصلابة أكثر في مجاهدته لنفسه، لم يكن ما تبقى من العمر انحدارًا، بل سيكون ارتفاعًا آخر لقمم لا تجاريها أي قمة، لذا قال ﷺ: «خيركم من طال عمره، وحسن عمله، وشرّكم من طال عمره، وساء عمله».
وهاهنا بعض عيون الشعر العربي، لمن بلغوا الأربعين، ففاضت منهم مشاعر وأشعار:
الجَهلُ بَعدَ الأَربَعينَ قَبيحُ *** فَزَعِ الفُؤادَ وَإِن ثَناهُ جُموحُ
وَبِعِ السَفاهَةَ بِالوَقارِ وَبِالنُهى *** ثَمَنٌ لَعَمرُكَ إِن فَعَلتَ رَبيحُ
فَلَقَد حَدا بِكَ حادِيانِ إِلى البِلى *** وَدَعاكَ داعٍ لِلرَحيلِ فَصيحُ
- دعبل الخزاعي
قالوا نهته الأربَعون عن الصِّبا *** وأخو المشيبِ يجورُ ثُمَّتَ يَهتدي
كم ضلَّ في ليلِ الشَّبابِ فدَلَّهُ *** وَضَحُ المشيبِ على الطَّريقِ الأقْصَدِ
وإذا عَددْتُ سنيّ ثم نقصتُها *** زَمَنَ الهُمومِ فتلك ساعةُ مَولِدي
- أسامة بن منقذ
لَمّا طَوَتكَ الأَربَعونَ *** وَآنَ لِلعُمرِ اِنقِراضُ
جادَ الشَبابُ بِنَفسِهِ *** وَبَدا بِعارِضِكَ البَياضُ
فَمتى أَطَفتَ بِلَذَّةٍ *** فَلِعارِضٍ فيها اِعتِراضُ
سُقياً لِأَيّامٍ مَضَت *** وَكَأَنَّ أَوجُهَها الرِياضُ
أَيّامَ يَدعونا الهَوى *** وَتَقودُنا الحدقُ المِراضُ
- محمود الورّاق
لي أربعون من السِّنين *** وأربعون من الولدْ
لا بل عَلَيَّ وليس لي *** ما بانَ منِّي فانْفَرَدْ
أو ليس ما عدَّتْهُ لي *** أيدي الحساب من العَدَدْ
مُتَخَوَّناً مُتَنَقَّصاً *** منِّي مزيداً في الأبَدْ
أو ما أرى ولدي قُوىً *** منِّي بنقْضي تُسْتَجَدْ
جُعِلَتْ وكانت كلُّها *** حَبْلاً حِبَالاتٍ بَدَدْ
كم من سُرورٍ لي بِمَوْ *** لُودٍ أُؤمِّلُهُ لِغَدْ
وبأن يَهُدَّنيَ الزمانُ *** رأيت مُنَّتَهُ تُشَدْ
ومن العجائب أن أُسَرَّ *** بما يُشَدُّ بأَنْ أَهَدْ
دع ذا فَخَلْفَك أربعون *** ضحى طويلاتُ المُددْ
تلْتجُّ فيها نفخةٌ *** للصور تَنخب ذا الجَلَدْ
شنعاءُ في الآذان تُقلق *** كلَّ روحٍ في جسدْ
يا راكضاً في لهوه *** مهلاً فقد جُزْتَ الأمَدْ
في الأربعينات التمام *** مَواعظ لذوي العُقَدْ
كم أربعين وأربعين *** وأربعون تقول قدْ؟
في كلهنَّ مواعظٌ *** تدعو الغَوِيَّ إلى الرَّشَدْ
فاقدم بتوبة مخلصٍ *** للواحد الأحد الصَمَدْ
- ابن الرومي
إِذا المَرءُ وَفّى الأَربَعينَ وَلَم يَكُن *** لَه دون ما يَهوى حَياءٌ وَلا سِترُ
فَدَعهُ ولآ تَنفَس عَلَيهِ الَّذي أَتى *** وَإِن جَرَّ أَذيال الحَياة لَهُ الدَهر
- أبو إسحاق الخريمي
ولا أجد خير ختام لهذه الخاطرة المطوّلة إلا قول الله تعالى:
(رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين).
اللهم آمين.
تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.