جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة



    في أوّل سنةٍ لي في الجامعة قبل ثلاث عشرة سنة زارني أحد الأفاضل في شقتي بمدينة بريدة حيث كنت أدرس في جامعة الإمام (جامعة القصيم فيما بعد)، وكنت يومها مستجدًا لم يمرّ شهرٌ على سكني في هذه الشقّة ودراستي في تلك الجامعة.

    كان ذلك الفاضل يكبرني بأعوامٍ عديدة، وقد تخرج من ذات الجامعة قبلي بعدّة سنوات، ولم يعد لمدينة بريدة منذ ذلك الوقت، وكان متحمسًا للزيارة وقتها لأنّي سكنت في ذات الشقّة التي كان يسكنها أو يزورها بين الحين والآخر (نسيت)، وكنت متحمسًا لأرى رّدة فعله وهو يعود لجامعته ومدينتها والشقّة التي أحبّها ولم تتغير كثيرًا منذ غادرها كما يقول. 

    وبعد أن تجولنا به في الشقّة، وانتهينا إلى المجلس لتقديم القهوة والشاي، أخذنا الحديث بعيدًا بعض الوقت، ثم أعدته إلى حديث الذكريات وسألته عن رأيه بهذه العودة بعد غياب ففاجأني بقوله: «الحقيقة أنني صُدمت بنفسي، فهذه الشقّة كلما تذكرتها في بعدي عنها أحسست بالحنين، وكذا شعوري نحو هذه المدينة، لكنّي وجدتني وكأنّي أطأ هذا المكان لأوّل مرة في حياتي، تغيرت علي بعض التفاصيل، فلم أحسّ بأي شعور نحوها، ولا نحو الشقة، ولا المدينة.. وهذا أمرٌ عجيب، فقد توقعت العكس» قال هذا الكلام والدهشة بادية بوضوح على محيّاه.

    ثم استمروا في أحاديثهم بينما علِقْت في شعور صادم وغير مريح من ردّة فعله، لإحساسي بأن الأماكن والذكريات لا تستحق ردّة الفعل هذه، لكن ما زاد حيرتي هو أنه لم يبد مرتاحًا كذلك لهذا الجفاء، كما أنني استغربت هذا التأثر الكبير بذاك التغيّر الصغير في تفاصيل الأمكنة.

    ومرّت الأيام، واتضح أنني لم أعْلَق في ذلك الشعور فقط، لكنّي علقتُ في الجامعة قرابة الثمان سنوات، سبع منها قضيتها في شقّة واحدة، حصل لي في تلك السنوات كلّ ما يخطر على البال من تجارب ومغامرات وعلاقات وغرائب.. وكل شيء، لو أنني دخلت الدنيا في أول عام من هذه السنوات السبع ثم غادرتها بعد نهايتها لظننت أنني قد أحطت بمقدار استطاعتي وطاقتي فيها علمًا ودراية وتجربة، وما إن انتهت تلك المرحلة، ومنذ اللحظة التي ودعتها بدموعي وابتساماتي، وأنا أتخيّل موعد عودتي إليها بعد سنة ربما أو سنتين أو ثلاثة، وكيف أنني سأعاني من شدة شوقي إليها، وإلى بريدة، وإلى الجامعة، وأتخيّل عظمة اللقاء بعد الغيبة، وأرسم سيناريوهات مؤثرة لذلك في مخيلتي.

    وبعد ثلاثة أعوام عدت إلى مدينة بريدة يسابقني حنيني إليها، لكني صدمت حين دخلتها بتحولها لمجمّعٍ تسوّقي عملاق تتوزع فيه المتاجر بطريقة غريبة، ففي جوار مجمّع الشقق الذي كنت أسكنه جنوب المدينة أرض مظلمة واسعة جعلها أصحاب الشاحنات مأوى لهم من السفر، وبعد عودتي وجدت تلك الأرض الهادئة تحتضن ستة مستودعات للتسوّق، ووجدتني حيثما وليت وجهي في أطراف المدينة أو في وسطها مارًا بمجمّع تسوقي، يجاوره مركز للتسوق ومحاطًا بمحلات لا ترى آخرها، غير مئات المطاعم والبوفيهات والمعجنات التي تصادفها في كل مكان.

    إن كان صاحبنا قد تأثّرت مشاعره وجفّت سيولتها لتغيّر طفيف في تفاصيل المدينة أو الشقّة (شارعٌ جديد، ترميم لمبنى قديم.. إلخ، تغير أماكن الفرش في الشقة)، فإنّ مشاعري قد انقلبت 180 درجة من الحنين إلى الجفوة، ومن الإقبال إلى الوحشة، فصرت كمراهقٍ مبتعثٍ تكاد تقفز روحه أمامه حماسًا للسفر إلى أمريكا أو اليابان، وحين يصل لا يجد أمامه في أيامه الأولى إلا الاكتئاب والغربة. 

    ضاقت أنفاسي في تلك البلدة، فلا أدري أفقدت ذاكرتي ونشفت أحاسيسي، أمّ أنّ المكان قد فقد الهدوء والبساطة والسمت الذي عرفته به.

*               *               *

    لتمرّ الأيام، وأجد هذا النضوب في نفسي كلما خرجت من منزلي في حيّ المحمديّة بمدينة رفحاء.. اليوم، فقبل عشرين سنة من الآن كنت أقف على عتبة الباب في صغري فأرى أنوار الشارع الدولي الذي يبعد قرابة الكيلو فقط عن منزلنا (ويُعرف عندنا بمسمى الشارع الأصفر)، ونرى سطوح الشاحنات العابرة وننام على أنغام مناطحتها للهواء، وإذا أملت رأسي قليلًا لليسار رأيت من مكاني جدران شركة الكهرباء البعيدة وأبصرت أنابيبها الطاردة لدخان مكائنها المزعجة أحيانًا، وكنّا نتخيّر أماكن لعب الكرة كما نشاء، فحينًا نلعب على رأس الرابية شرق المنزل، وحينًا نغيّر المكان إلى الأرض المنخفضة شماله، وفي بعض الأوقات نتسابق بدراجاتنا في الخطوط غير المعبدة ولم ندرك أنّنا لو سلكنا هذا الطريق المتعرج الحرّ بعد 20 سنة فإننا سنرتطم بجدارٍ لا يبعد عن خطّ البداية إلا بضعة أمتار، ولن نستطيع الاستمرار مطلقًا لأن أولئك الصبية وذلك الخط كانوا يسيرون على مخططٍ مزدحمٍ لثلاث حارات.. في المستقبل.

    كانوا يقولون أن هذا هو حيّ المحمدية، وكنا لا ندري أين أطرافه، ليس من السهل معرفتها والبيوت متفرقة عن بعضها كحجارة سوداء صغيرة ألقيتها في أرض فلاة.. بلا ترتيب أو تنسيق.

    ونعم.. كنت من أولئك المحظوظين الذين استعاروا الملح من الجيران، وأعار المواعين لولدهم الواقف أمام بابنا وقد أرسلته أمّه، وكنت من أولئك السعداء الذين أوصلوا العشاء لأمّ فلان التي لم تستطع حضور وليمتنا، وكنت من أولئك المسرورين الذين يأخذهم جدّهم معه مشيًا على الأقدام للتجوّل بين بيوت الحارة ودعوة الآباء أو توصية النساء الواقفات خلف الأبواب بحضور وليمة الليلة. 

    حتى أحلامنا في المنام كانت واسعة الأرجاء فسيحة المكان، كنت أحلم عن أحداثٍ في حارتنا أرى فيها مختلف التضاريس، وكان من الممكن أن أرى شخصيات المنام تقدم من بعيد، وحتى ذلك البعيد كان رحبًا ممتدًا.. . 

    ثم أخذت الجدران تزدحم حولنا خلال عقد من الزمان، واعتادت عضلات أعيننا وأبصارها على الإحجام، واكتمل ازدحام الحي بالبيوت بتمام ذلك العقد، لكن لم يزل حيًا سكنيًا على أية حال، فالصف الأوّل من مسجدنا يحتضن الأجداد، وأطرافه محجوزة للآباء، وبقيّة الصفوف للمؤتمِر من الأطفال والمطيع من المراهقين والشباب، وإن صلى معنا غريب، عرفنا أنه كذلك. وفي الزاوية الغير مكتملة تقبع بقالة الحارة، وعبدالمجيد.. عاملها المحبوب والمعروف، إن دخل البقالة غريب آخر، اكتشفنا غربته أيضًا، ومجلسنا وديوانيات الجيران مفتوحة في أوقات مختلفة للحديث والمسامرة وربما الإفطار أحيانًا في الصباح، وأكل الفواكه في بقيّة الأوقات. 

    في أحضان هذه الحميمية؛ لم نهتم لخسارة إطلالتنا اليسيرة نحو أنوار (الشارع الأصفر)، ولم نفتقد أنابيب شركة الكهرباء كثيرًا، وحسنًا.. ربما اشتقنا لتلك الجولة الحرّة على الدراجات، لكن ما بقي فيه الخير والبركة، وكنا في بيوتنا نلتهي في الألعاب الجماعية، وحتى الإلكترونية منها.. كانت لذتها في اجتماعنا حولها. 

    وكبرامج الكاميرا الخفية، انطلى علينا مقلب الحياة، فأفقنا على اختفاء الأجداد من الصفّ الأوّل، وزالت معهم أحاديثهم وقصصهم، وغابت الكثير من مصطلحاتهم، وتوارت الحكمة، فلم نعد نجد في المجالس من يحكي لنتأمل، وبدت المجالس ألصق بأحاديث الدنيا وديكورات العصر الحديث، عكس أحاديث الأجداد التي كانت تحكي عن عالمٍ غير عالمنا وبيئة غير بيئتنا، كانت أحاديثهم كنزهة للصحراء نشهد فيها الجِمال والخيام وبيوت الشعر ورحلات الشتاء والصيف، وشيئًا فشيئًا بدأت السوالف تقترب من أزماننا، لنرى في خلفياتها الشوارع ومحطات البنزين وعقود الشركات.. وحكايا العسكرية، وصارت الأحاديث تُنقل بمصطلحاتنا المادية.. والرخيصة، وكان من المحزن جدًا أن يزامن ذلك إحساسنا بأهميّة ما كانوا يقولون، ووعينا بنبلهم الذي أعمتنا عنه غفلة الطفولة وغرور المراهقة وجفاء الشباب. 

    ثم بدا أن كثيرًا من الجيران كانوا جزءًا من فريق الكاميرا الخفية التي أنتجته الحياة بدعم من البلديّة!، فَخوت بيوتهم منهم، فلا ندري، هل استغرق الأمر أسابيعًا وأشهرًا أم أننا كنا نبيت في ليلتنا ومنازل الجيران موجودة في مكانها ونصبح من الغد لنجدها قد استحالت محلّات تجارية تعلوها شقق مفروشة؟! 

    حلّت العمالة من شتى الجنسيات مكان الأجداد وكثير من الآباء في المسجد، لم يعد هذا (مسجد الحارة)؛ بل مسجد السوق، ولم نعد نكتشف الأغراب، فكلّ يوم نرى أغرابًا، كان يفترض أننا في حيّ سكني، فإذا نحن في سوق فيه بضع بيوت، نحن متطفلون في (حيّ العمال) الجديد، وقد صارت ثلاث أرباع المدينة.. حيًّا عماليا. 

    وللأسف.. انحصرت غالب أحلامنا وكوابيسنا في المنام داخل نطاق (الديوانية) و(المقلط).. و(حوش) البيت، وربما السطح أحيانًا.

      وصرنا ندرك  البساطة التي فقدناها كلما تنزهنا في الصحراء، ورأينا أن استجابة نفوسنا للطبيعة صارت أعمق، كأنه احتجاج في اشتياق، وكذا حين زرنا بعض القرى التي لم تتلوث، وإن كانت في الآونة الأخيرة قد صار بعضها نماذج مصغرة لتلك النماذج الوسطى والكبيرة من خليط الإسمنت والإسفلت والعشب الميت المصبوغ، وأدرك أن أُنس الأراضي العشوائية الفارغة التي كانت تحيط بنا وتتخلل حوارينا، أعظم بكثير من هذه المتنزهات المدروسة والمصممة والمزخرفة.. كفسحةٍ جمالية في آلة صمّاء وكألوان صناعية تمر بها خطوط إنتاج.

    ألتفت حولي هذه الأيام فإذا مبنيان جديدان تلمع صبغتهما.. للشقق المفروشة، وفي الجهة المقابلة أجد مبنى في لحظات بنائه الأخيرة، يستعدّ لاستضافة المزيد من الأغراب الذين اغتربنا بينهم، وما بين غمضة عين وانتباهتها استقرت عشر عوائل بأطفالها وسياراتها حولنا، وفي نطاق 200 متر أُحِطنا بأكثر من 100 محلّ وبأكثر من عشر مبان للشقق السكنية.. خلال عقدٍ واحدٍ فقط. 

    الأمر جليّ الآن، لم تعد هذه حارتنا مطلقًا، وقد غيضت أبصارنا لهول ما رأينا من هذا التغيير العجيب والسريع. 

*               *               * 

    تذكرت وأنا أتأمل في هذا الموضوع الفترة الماضية مقالات قرأتها قديمًا عما يطلق عليه (المدن البطيئة)، وهي مدنٌ تقع في كبرى دول العالم (اختار) أهلها ألا تبتلعهم هذه المظاهر المادية، فصار بطؤ نمو مدينتهم نحو الشكل التجاري المعاصر مزيّة تدعمها أنظمتهم وسكان تلك المدن ولا يملك تاجر أو موظف بلدية أن يغيّر من ذلك شيئًا، فقد استوعبوا أن انتفاع أهالي المدينة تجاريًا ووظيفيًا لا يعني مطلقًا هذه الفوضى التي نعانيها اليوم، فصار المنزل العائلي يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى محلات تجارية في الأسفل وسكنٍ للعمّال في الأعلى دون أدنى اعتبار لبقية سكان هذا الحي، ولا لمخططاته القديمة.. المهملة.

    لو طالعت مخطط المدينة من الأعلى لرأيت وحشًا تجاريًا يلاحق سكانها من حيٍّ إلى حي، ومن عقدٍ إلى عقد، ولأبصرت كيف أن الأهالي قد تفرقوا في الأحياء الجديدة هاربين من أمرٍ سيصلهم حتمًا -إذا استمر الأمر على هذه الحال- خلال عقدٍ قادم فقط، كنت أمازح أحد الأصدقاء من سكان الجيل الثالث من حواري المدينة بأن حيّهم قد تحول إلى سكنٍ لشركة بن لادن لكثرة العمالة التي تحيط بهم، وكان ملّاك تلك الشقق قد أسكتوهم في البداية بتطمينات أنهم لن يسكنوا إلا العوائل، لتطأ الأيام على جذوة رهبة الجديد فيعتاد صاحبي والبقية الباقية من أهالي حيّه على وجود أولئك العمّال العزّاب بين عوائلهم وأطفالهم، البلادة مريحة للكسالى، وقناعة صاحب الحقّ كنزٌ لسارقه!.

    ومن الطرافة بل المضحك أن أشعر بالحنين اليوم كلما دخلت سوق رفحاء القديم، والذي كنت أعتبره يومًا رمزًا للمادية المعاصرة والهوس الاستهلاكي ومكانًا أتجنبه هربًا من توتّر المدنيّة(!)؛ ربما لوجود شعار شركة سوني في زاوية السوق الجنوبية!

    لفلسفة (المدينة البطيئة) التي التزمَت بها الكثير من المدن اليوم شروطًا وأركانًا منها: ألا يتجاوز السكان الخمسين ألف نسمة، ومنع مطاعم الوجبات السريعة والاكتفاء بمطاعم الوجبات المحلية، وكذلك منع مراكز التسوق الكبرى.

    وطبعًا.. بعد مجزرة الذكريات التي صارت في مدينتي رفحاء (وأهمها هدم مباني محطات التابلاين وتسويته بالأرض قبل سنوات دون أدنى اعتبار لارتباطها بتاريخ المنطقة وجغرافيتها ووجدان أهاليها!)، وفي بريدة كذلك، واستحالة طلب تطبيق هذه الشروط من الأساس (إلا إذا أهلكنا أربعين ألف نسمة من سكان مدينتي!)؛ لا نطمع بعد الآن من المعنيين بالأمر إلا أن يحترموا خصوصية الأماكن السكنية، ويقدّروا أن آباءنا وأجدادنا سكنوا هذه الأحياء على أساس أنها أحياء سكنية لا مجمعات ومراكز، وتوزيع الأسواق توزيعًا معقولًا وعادلًا لا يضايقنا في أحيائنا السكنية كما هو الحال الآن.

    قد فاتنا اليوم إدراك (المدينة البطيئة)، وقد زاد عدد السكان، ورفع ماكدونالدز رايته بيننا، فلا يفوتنا أن نساهم في بروز فلسفة جديدة عنوانها: (الحيّ الحلزوني)؛ فتُمنع المحلات التجارية منعًا باتًا داخل الحارة، إلا البقالات فقط، وتمنع مجمعات الشقق كذلك، ولا بأس أن تحيط هذه الأمور بالحي على ألا تتجه مداخله ومخارجه إلى جهته؛ بل نحو الشوارع الرئيسية المحيطة. 

    نحن لا نطالب اليوم بالمدينة البطيئة؛ بل بالأحياء البطيئةّ وكثّر الله خيركم.

    وإلا فإنني أخشى أن تضيق بنا المساحات يومًا فتكون أقصى مطالبنا: البيوت البطيئة، وربما الغرفة البطيئة!! فتضيق على أبصارنا، وأحلامنا، وخيالاتنا.. ونفوسنا.

    ألا فليرحم الله دين العجائز، وزمان العجائز، وقرى العجائز.. وخيالهن.

.
تعليقان (2)
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

  1. كان علامة الجزيرة حمد الجاسر يتحسر على ضياع أحياء ومعالم الرياض القادمة وتمنى على الحكومة لو حافظت على هذا التراث الجميل ، للأسف أن تزور مدن أوربية وعالمية فتجد مبنى عمره ٥٠٠ عام وساحة تعود لألف سنة يجتمع فيها أهل المدينة والسياح فتعود لهم الذاكرة الجميلة ،، مقال رائع يا صديق

    ردحذف
  2. تسلم أبو يارا، على الله يسلم برج حارتكم بس وما يفتح به بعض ناس شقق عمال.

    ردحذف

إعلان أسفل المقال