جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


    في معرض ذكره لصلته بالأديب الشاعر زكي مبارك في كتابه الماتع (من أعلام العصر)، مرّ د. محمد رجب البيومي على موقفٍ جرى بينه وبين (الدكاترة زكي) فقال:

    «حرصت على أن أديم لقائي بالدكتور مبارك، فساقتني قدماي إلى جريدة البلاغ ... فما إن رآني الرجل الطيب حتى نهض مرحبًا ومحتضنًا ... وسألني: أين ديوان ألحان الخلود؟» وهو ديوان شعري لزكي مبارك نفسه.

    يكمل البيومي: «فقلت: هو في صدري أحفظ أكثره، قال: وأي قصيدة أعجبتك؟ قلت: قصيدة بغداد! فقال: الله أكبر! لقد أُعجب بها شاعر العراق الكبير الأستاذ محمد رضا الشببني وزير المعارف الأسبق؛ لأنه ناقد، وضاق بها علي الجارم الموظف بوزارة المعارف؛ لأنه حاقد! قلت: القصائد ترتفع عند قوم، وتنخفض عند آخرين؛ لاختلاف وجهات النظر. فقال الدكتور: من أين جاءك هذا الاحتيال؟ الحقّ هو الحقّ، ولن يكون الاختلاف أبدًا في القصائد الممتازة، ولكنه يكون في القصائد المتوسطة التي تحمل القوّة والضعف معا، فيميل قوم إلى الإغضاء عن المحاسن لتجسيم المساوئ، ويميل قومٌ إلى تضخيم المحاسن ليقضوا على المساوئ، وقصيدة بغداد كلها محاسن..»(1).

    طربت كثيرًا لهذا الردّ من الدكاترة بغض النظر عن موضوعه، فمن الجُمَل والعبارات والقواعد ما تكون كالسَّحاب العريض الذي لا تُرى أطرافه، فهو يظللك.. ويظلل الآفاق كذلك، وهو يُسقط المطر عليك وحواليك وما وراء تلك النواحي، وتمرّ على القارئ فترة طويلة يصير فيها تقييد الشواهد والأقوال والمسائل روتينًا معتادًا، حتى تأتيك بعض العبارات والإلتقاطات التي تنفض ما بداخلك فتفزّ لها، ولعلك تقتنصها في مقام لم تحسب لورودها فيه الحساب.

    بعد أن انتهيت من قراءة تلك العبارة وقفت أتأمّل إسقاطها على العديد من المسائل الشرعية والفكرية التي نهشها (المحتالون) من أرباب (حزب الكنبة الفكري!) الذين أثبتت التجارب البائسة في الحوار معهم أنهم لا يصلحون للنقاش العلمي الجاد والمخلص، وإنما الواجب أن نخرج معهم خروج زكي مبارك الفطن بالبيومي، فنقول بكل ثقة: من أين جاءكم هذا الاحتيال؟!

    إن زكي مبارك ما سأل هذا السؤال إلا لاطمئنانه بجودة تلك القصيدة، واستدلاله بحكم من يثق به فيها، فما سأل إلا لإيمانه العميق بكمال محاسنها، فيا ليت شعري أيّ اطمئنان يجده من يخلق الخلاف، أو يبحث عنه، فإن وجده كان استدلاله به أشدّ من استدلاله بالوحيين؟!

    البعض سلك مسلكًا عجيبًا في اصطناع الخلاف في المسائل الفكرية وإذابتها حتى تكاد تسأله: فما جدوى التوبة إذن؟ ومما يتوب الإنسان؟!! وبالمناسبة: من أين جاءك هذا الاحتيال؟!

    إنّ (نعم) التي سأقولها ردًا على من سينشر المنشور ويؤكد على أنّ الخلاف من سنن هذه الحياة، هي نفسها (نعم) التي يؤكدها زكي مبارك في وجود القصائد المتوسطة، والقبيح منها والحسن، فهو يقول بثقة مثيرة للإعجاب: نعم، أعلم أن القبح موجود، والجميل موجود، وأعلم أن هنالك قصائد متوسطة، وأخرى رديئة، لكني مع استحضاري لكل ذلك أؤكد لكم على أنّ قصيدتي كاملة المحاسن؛ فلا يشترط في وجود القبح أن يوجد في كلّ شيء.

    وفي أمور الدنيا، لو سألت أحدهم عن استحقاقه لقيمة راتبه في وظيفته الحكومية، وجادلته حول مصيبة تضخم القطاعات الحكومية حتى تصير ثقبًا أسودًا عظيمًا يبتلع مقدرات البلاد، ويتسع سنويًا فيبتلع المقدرات أكثر، ولا بدّ يومًا أن يؤدي للانهيار؛ لرأيته ينتفض أمامك وتنتفض معه كلّ ذرّة من جسده مدافعًا بشراسة عن عدالة رأيه، وأنّه حقّ كله، بل إنه حقٌّ ناقص يحتاج لدعم أكبر.

    هذه الانتفاضة التي نراها كل حين وآخر في دنيا الناس هي بعينها الإيمان بالمبدأ، وهي هي أخذه بقوّة، ولا يكون هذا إلا بمثل هذه الثقة المفرطة والاعتداد بالرأي والثبات عليه والعزيمة في ذلك إن تيقن ثبوته تمام اليقين، وإنّ هذا لاختيال تبغضه النفوس النبيلة.. إلا في مثل هذه المواطن.

    نعم.. حريٌّ بنا استيعاب أن الخلاف سنّة في الحياة، ولكنه ليس سنّة في كل تفاصيل الحياة، وليس كلّ خلاف وجد هو خلاف حق، لأن بعض المسائل كلّها حق لا تحتمل غير الحق، وكل خلاف حولها باطل مهما علا ضجيجه ومهما كان كثيفًا، ولو أننا استحضرنا هذا الأمر في أذهاننا عند كل نقاش، لذهب الكثير من اللغط، ولم يبق منه في مواقعنا الإلكترونية إلا لغط المأجورين والجيوش الإلكترونية ومن طبع الله على قلبه فباع نفسه وفكره وقلمه لغرض من الدنيا قليل!!

*          *          *

    ولنضرب مثلًا شرعيًا لمسائل ينطبق عليها (كليّة) زكي مبارك التي حملت المحاسن جميعها على قصيدته، مسائل كلها حق ومحاسن؛ كمسألة غضّ البصر، يقول الله عز وجل: ﴿قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم﴾، وقال ﷺ: «غضوا أبصاركم»، وعن جرير بن عبدالله قال: سألتُ رسولَ اللهِ ﷺ عن نظرِ الفُجاءةِ، فأمرني أن أصرفَ بصري.

    ومن المسائل التي كلها حق كذلك، أن المجاهرة بالمعصية نزْعٌ للعافية من أي فرد أو مجتمع يقترفها، قال ﷺ: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»، وعافية الفرد في صحته وماله ودينه ونفسه وأحبابه، وعافية المجتمعات في أمنها ورخائها وحيويتها وتكافلها.. فالمجاهرة نزع لبعض ذلك أو كله.

    فالمحصّلة إذن من هاتين المسألتين والنموذجين أنّ غض البصر حق، ما يعني بالضرورة أن مخالفة هذا الأمر وإطلاقه معصية صريحة، فإذن، إن تأملنا المثل الثاني تيقنّا أن المجاهرة بإطلاق البصر هو مجاهرة بالمعصية ينزع العافية من الفرد والمجتمع، فإن جمعت هاتين المسألتين وجعلتهما أمامك ثم تأملت فيهما وتذكرت أن الوحي أمر بغض البصر والنساء محجبات، لكان من حقك أن تتساءل: يا إلهي! أنا أنظر إلى هذا الحقّ الصُراح، وأؤمن به لأنّه حقّ كله لا سبيل إلا إلى الإيمان به؛ فمن أين جاء البعض بالاحتيال في مسألة السينما؟! كيف يجتمع غض البصر وتلك الشاشة؟!!

    ومن الأمثلة التي كلها حق: أنّ البشر غير معصومين، وأنّ عدم عصمة الإنسان لا يعني ألا يَنصح ويُنكر ويوجّه.. وإلا انقطع النصح والتوجيه بين الناس، ولم يستطع والد أن يربي ولده، ولا أستاذ أن يوجّه تلاميذه، وإنّ الحقّ لا يصير باطلًا لأنّ قائله قصّر في تطبيقه أو زلّ في مخالفته، أو لأنّ ناقله فيه من السلبيات ما فيها.

    هذا حق كلّه، لا يعقل أن تجد من يخالفه، وعليه.. فلا تنطلي عليك أساليب المشبوهين في مواقع التواصل وغيرها، فيستدلون بزلّة عنصريّة قال بها أحد المنسوبين للعلم وأهله على إبطال حجّته في مسائل شرعيّة كثيرة (خصوصًا في أبواب التغريب التي لم تزل ميدانًا عظيمًا من أخطر ميادين المواجهة بين حضارتنا وحضارات غيرنا في هذا العصر)، بينما يصبح المشتوم في شكله أو لونه على حقّ دائمًا.. لأنه شُتِم فقط!، لا يليق هذا الفكر بالعقول الواعية؛ بل يُنكر الفعل ولا يُمدّ أثره لينكر الحق، وقد علّم الشيطان الأمّة بعضًا من فضل آية الكرسي؛ فمن أين جاءك هذا الاحتيال التافه؟!

    ولا ينطلي عليك تقصير الناصح أو علمك ببعض ذنوبه أو زلّة قام بها على ردِّ ما ساقه إليك من الحقّ، لأنّ تقصيره عليه، أما الحقّ الذي يقوله فعليك وعليه، فإن سبقك بنقل الحقّ وقصّر في تطبيقه فاسبقه إلى العمل به، وإلا.. فلأبنائك الحق أن يدخّنوا إن كنت تفعل، أو يفشلوا في دراستهم ووظيفتهم إن كنت يومًا كذلك، ولك الحقّ أن تعقّ أوامر والدك كلها إن رأيت منه زلّة أو زلّتين، وربما تصوّر ما فعل بتغريدة على تويتر أو خاطرة على فيسبوك وتستشهد بها فيعذرك الناس لردّ أي نصح آخر يقوله!.

    نحن بحاجة إلى الاعتراف بقَدَر التقصير، كي نفرّ إلى قدر التوبة: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»، فكيف يحتاجها من يحمل الحقّ والباطل معًا في كل مسألة؟! فيرى التقصير حقًا آخر، وقد يصل البعض إلى رؤية بعض مظاهر الكفر والفسوق والعصيان كزوايا أخرى للحق أو بعض الحق إذ احتال عليها بحيل الخلاف في كلّ مرّة.

مقالات ذات صلة:
_____________________________
(1) (من أعلام العصر، كيف عرفت هؤلاء؟)، د. محمد رجب البيومي، الدار المصرية اللبنانية، ص:90.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال