جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


   أن يقتلَ الرجل ابن عمّه أو صديقه في جريمةٍ جنائية، سيُقال: نزغ الشيطان بينهما، ونفخ في مشاعر القاتل، وركب غضبه، ثم يردد العقلاء: رحم الله الميت وأعان أهاليهما، وانتهى طرف القضيّة في الدنيا.

   أما أن يفتك المسلمُ بخاله أو ابن عمّه أو ابن خالته أو والدته أو صديقه عن قناعةٍ وترصّد، بناء على ما اتفق في باله من نظرات وآراء هي أوهن من بيت العنكبوت لو باتت في بصيرة غيره، ثم يطاوع قلبُهُ عقلَه، وينبض لفعلته عِرقه؛ فهذه والله من عجائب الزمان ومستجدّات الأمور، لكنها لم تفت على من لا ينطق عن الهوى، القائل: «تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها»، ومن قال عنه أصحابه: توفي النبي ﷺ وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وعندنا منه خبر. وقد كان يقول اليهود لبعض الصحابة: علّمكم نبيّكم كل شيء حتى أمر قضاء الحاجة؟!!!

   لنعد معًا إلى بدايات القرن العشرين في إحدى المدن الأمريكية، حيث حصلت مشادة بين إحدى الأديبات وبين شابٍ يعمل في ورشة لصيانة المركبات، فنفضت يدها منه ثم اشتكته لمالك الورشة الذي أوجز الأمرَ عليها وفاجأها بتبريرٍ طريفٍ غادَرَ به الورشةَ وجال بين البلاد والعباد، فذكر فيه أنه يعتبر هذا الشاب من (الجيل الضائع) الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة والعشرين إلى الثلاثينات ومروا خلال سنوات نضجهم ونموّهم بالحرب العالمية الأولى!!. والمعنى: ألا يُحمّل هذا الشاب من المسؤوليات والتقريع أكثر مما يرجى منه ومن جيله، فهو قد أتلف العمل لأنّه -ببساطة- من الجيل الضائع!!

   لتلتقط الأديبة هذا المصطلح (الجيل الضائع) وتشتهر بعد ذلك ضمن دراسات وروايات وكتابات لعلّ أشهرها رواية (ثم تشرق الشمس) لأرنست همجواي، وتستمر دراسات الأجيال بالظهور واكتشاف الخصائص والسمات على هذا النهج السالك منذ جيل ما بين الحربين بداية القرن العشرين، مرورًا بالجيل الضائع بعد الحرب العالمية الأولى، ثم الجيل العظيم (الصامت) قبل الحرب العالمية الثانية، ثم جيل جونز بعد الحرب العالمية الثانية، ثم جيل النرجسية (الأنا) بين الأربعينات والستينات، ثم (الجيل X) أو الجيل العاشر من الستينات وحتى الثمانينات.. وصولًا إلى جيلي، موضوع هذا المقال: (جيل الألفية) أو (الجيل Y) منذ مواليد الثمانينات الميلادية وحتى وقتٍ مبكر من الألفية (2000s)، جيل ما قبل 2005م.

   فهل نوجز الرأي عن بشاعة ما جرى من أولئك كما اختصره صاحب الورشة؟ فنؤوّل ما اقترفوه لأنّهم من (جيلِ الهباء) فلا غرابة مما صنعوه؛ لأنهم من جيلٍ ولد ونما وبدأ ينضج في سياق الوسائل الإلكترونية الحديثة معايشًا لتدرّجها، بدءًا من انتشار الكمبيوتر بأنواعه ومرورًا بظهور الانترنت ومواقعه ومنتدياته، وحتى تنامي سوق الهواتف المحمولة مع إطلالة أجيالها الذكية.. فتطوّر كل ما مضى حتى تيسر به التواصل وسرعة البلوغ إلى المعلومة.

   الجيل الذي جاء بعد الطفرة، وميّز بعضه الحياة على أعتاب حرب الخليج الثانية (وآخرون ميزوها على أعتاب سبتمبر وحرب الخليج الثالثة)، ثم التهى بشيء من بهرجة التسعينات وقوالبها مع بُعدِ ضجيجِ الحروب للشيشان والبوسنة عن أسماعه الطفولية، حتى استهلّ الألفيّة محاطًا بالقنوات الفضائية والانترنت.. والأحداث الجسام.

   هنا سيقول القارئ: لماذا أغفلت مسمّى (جيل الألفيّة) أو (الجيل Y) وأطلقت على هذا الجيل صفة: (جيل الهباء)؟

   حسنًا.. لنتفق على ألا يقع في بالك أنني أجزم بملاءمة هذه الصفة لوصف حال هذا الجيل، وإنما (أخشى) أن تنطبق عليه، ولي على هذا الاحتمال أمارات وشواهد، أرجو خطئي فيها أكثر من صوابي.

صفات جيل الهباء

   عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال:
   حدثنا رسول الله ﷺ فقال: «إن بين يدي الساعة لهرجا».
   قال: قلت يا رسول الله ما الهرج؟
   قال: «القتل».
   فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا.
   فقال رسول الله ﷺ: «ليس بقتل المشركين ولكن يقتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته».
   فقال بعض القوم: يا رسول الله ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟!!!
   قال رسول الله ﷺ: «لا، تُنزَع عقول أكثر ذلك الزمان ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم، يحسب أحدهم أنه على شيء وليس على شيء»(1).

   إذن.. نحن أمام جيلٍ من المسلمين يظهر على أيديهم بلاء عظيم، يكون من نتائجه اختلاطٌ في الأفهام واستباحة الدماء حتى يصل الأمر عند هؤلاء إلى استحلال دماء جيرانهم وأقاربهم، ويظهر في الحديث أنّ السبب في جزمهم أنهم اتكؤوا على (شيء) يبرّر أفعالهم ويزينها لهم من العلم والفهم، لكن ظنهم باطل وحسبتهم خاطئة: «وليس على شيء».

   أما الزمن الذي حُدّد في الحديث بقوله ﷺ: «بين يدي الساعة» فقد بدأ منذ وفاة النبي ﷺ ويمتدّ إلى نهاية الزمان، كما في الحديث: «اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا»(2) وهذا الزمن وردت في شأن أحداثهِ الكثير من الأخبار التي يعنينا منها ما يربط ما يحصل في زمنه من (هرجٍ).. بنكباتٍ وصفاتٍ أخرى تتزامن معه وتمنحك تصورًا عن ملامح (جيل الهباء) المخيفة التي تؤدي بهم إلى الإهلاك وفعل الفظائع التي لا تتصور حصولها العقول السويّة، ولذلك كانت الفاجعة بالحوادث الأخيرة لا توصف. 

   ولجيل الهباء مقدّمات تسبق اقترافهم للفظائع التي ذكرها الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، ولا يُتصوّر أنهم يمسكون برقاب بعضهم ويسفكون الدماء دون مقدّمات أو أسباب، وبالقدر الذي ألتزم فيه بنهج أهل السنةّ في عدم تنزيل أحاديث الفتن على الواقع إلا بضوابط مرجعها أهل العلم والتخصص، فإنّي لا أحدّد في مقالي الهرج بزماننا فقط دون بقية الأزمان، كما أنني أسلك في هذا المقال مسلك إبداء الخشية من وقوعها من باب التنبيه والتحذير لا التنزيل والمطابقة، ثم أنني لن أهتم بالتتبع النسبي للمتصفين بصفات هذا الجيل في أيّامنا، وإنما يكفيني النماذج التي اقترفت ما رأيناه صوتًا وصورة، فمبدأ النار من مستصغر الشرر، وغاية الأمر هنا أن أقابل صفات (جيل الهباء).. بصفات (جيل الألفيّة) أو (الجيل Y) حسب ما استنتجه المتخصصون بدراسات الأجيال وصفاتها.

   وكون هذه الدراسات مرتبطة بالأجيال الغربية (في أمريكا الشمالية بالخصوص) لا يعني انعدام الخصائص والآثار والسمات المشتركة بيننا وبينهم والتي كانت نادرة أو قليلة في الأجيال السابقة، لكنها واضحة جليّة في (جيل الألفية) لتزامن ظهوره مع عمليّة العولمة وتسارعها وبروز آثارها واتساعها.

*           *           *

   يتصف جيل الهباء بصفات مترابطة ذات تأثيرات متشابكة، والهرج واحدٌ من نتائج أصحابها. فمن صفاتهم التي ذكرها نبينا ﷺ:
  • الجهل، ففي أزمان الهرج يُقبض العلم بقبض العلماء في زمن هذا الجيل(3)، وموت العلماء أو ندرتهم أو ذهاب تأثيرهم لاستضعافهم ومحاربتهم ينتج عنه ظهور الجهل بعد صعود فئات يتخذهم الناس رؤوسًا في الإفتاء والتعليم على جهلٍ وضلالة ويلبسونهم من الألقاب والمنح العلمية ما لم يُعطَوا. (4)
  • الاستخفاف بالمسائل الكبرى وتبسيطها، كالدماء.(5)
  • انعدام الصبر، لعجلته وقلة احتماله، فيترنّح واحدهم بين درجة الإيمان ودركات الكفر البواح، فيصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا.. والعكس، وقد يصنع ذلك لغرض من أغراض الدنيا وشهواتها كالشهرة والسلطة والمال والجاه والنساء وغير ذلك.(6)
  • التعالم والتفاهة مع الفسق والسفاهة والجرأة والتعالم والثقة بالذات إلى درجة الحديث عن شؤون الأمة على عجزه عن معالي الأمور، مع تكذيبه للصادقين وتصديقهم للكاذبين.(7)
  • الخيانة والغدر: فتفسد في هذا الجيل العهود والأمانات، حتى لا يأمنهم جليسهم.(8)
   ومن علامات زمان الهرج وأيامه وشواهدها الظاهرة في وقتنا:
  • تقارب الأسواق. (9)
  • انتشار الكتابة ووسائلها خصوصًا في علوم الدنيا.(10)
  • فشو التجارة.(11)
  • ظهور الربا والزنا والخمر. (12)
   ومما مضى.. إن تأملت سماتهم، وعاينت ملامح زمانهم؛ ففي وسعك أن تلمح خطوات الشيطان أسفل مواطئهم، وتتقصى فتنتهم من مستصغر شررهم إلى اشتعاله، وتبصُر بآثار هذا كله على نفوسهم وأخلاقهم وفكرهم وخططهم.

   فإذا تتبعت السمات التي استنتجها وأبرزها دارسوا الأجيال لما أطلقوا عليهم مسمى (جيل الألفية) أو (الجيل Y)، ستجدها تدور وتتوقف على النعوت التالية(13):
  • اختصاره للثقافة طلبًا وإنتاجًا، ما يعني: استعجاله، وجرأته على التصدر مبكرًا، وجهله، وربوضه عن معالي العلوم والمعرفة. 
  • لا يحب التعب والانتظار، يتوقع أن يكون كل شيء متوافرا، متى ما أراده وهذه أعم من الصفة الأولى التي تعتبر من آثار هذه الصفة، وتدلّ على السفاهة.
  • ارتفاع سقف التوقعات مقابل قلة الصبر، وعبّروا عنها بعنوان طريف: (وفاة مؤسسة الصبر).
  • يُسر البلوغ للمعلومة متى ما أراد وقربها من المتناول عبر الوسائل الحديثة؛ أدخَلَه في (وهم المعرفة)، وهذا يؤدي لتلبّس الفرد بما لم يعط، ولا يظهر أمام العلماء والمتخصصين إلا في هيئة (الندّ) لهم، فسقط في أوحال التعالم، و"بالَغ قبل أن يبلُغ".
  • يسعى في كثير من الأحيان إلى تأجيل انتقاله من مرحلة المراهقة للنضج والبلوغ.
  • هذا الجيل بعيد عن المؤسسة الدينية الكلاسيكية، وأقل اهتماما بفهم الأفكار العميقة والتفصيلية وراء الأديان، وهذه أخطر صفاته بالنسبة لنا كمسلمين؛ لأنها تعني قابليته للأفكار السطحية واحتفائه بأصحابها، أما وصفه بـ (قلة اهتمامه بالأفكار العميقة والتفصيلية) فيعني حتما سلاسة انقياد هذا الجيل أمام دعاة الأفكار الدعائية المنتسبة لدينه المتلبسة بهيئته.
  • يبسّط الأمور، وهذا يجعله أقل انتماء للمبادئ الأصيلة، وأكثر انصرافًا للتوافه، وأجرأ على تجاوز الحدود عند إيمانه بمبادئ دعائية مبهرجة.
  • "أريده وأريده الآن" هي عبارة شهيرة باللغة الإنجليزية، وتعبر عن داء العجلة في هذا الجيل الجديد.
  • من الناحية الفكرية، جيل الألفية جيل شديد المثالية، يكره الفساد، ويحب الجودة العالية، ويعشق الأفكار العملية والإنجازات، ويؤمن بالتغيير السريع للمجتمع، ومستعد للتضحية بنفسه من أجل ذلك، وهذه السلوكيات وإن كان ظاهرها يوحي بالإيجابية والتفاؤل، فربطها ببقية الصفات توحي أن سلامتها متصل بطبيعة المعالجة التي سيبذل نفسه من أجلها، وأيّ واقعٍ يسقطها عليه من هذه صفاته؟ فقد يرفع شعاراتها من يفتك بالمسلمين، وقد يرفعها من يصفّ في مسيرة الانهزامية أمام الغرب والوَحشة من الأمة وعلمائها وتراثها.. والحق، وقد كان جيل الهيبيز (الجيل العاشر) يعبّر -بزعمه- عن السلام والحرية والطمأنينة بالمخدرات والعُرِي والسير بلا هدف أو بناء.
   وبمقابلة صفات الجيلين (جيل الألفية) و(جيل الهباء) سترى أنها تلتقي وتتقاطع في عدّة صفات واضحة جليّة، وهي: الجهل، والتعالم، والجرأة، والسذاجة، والاستعجال، والسفاهة، والغلو في التضحية دون تعمّق بدوافعها وحقيقتها، والتلبّس بما لم يُعطَوا.. والقابلية للتجنيد(14) وغير ذلك مما استعرضته أمامكم.

   وإن لم يُذكر في الأحاديث النبويّة الشريفة جذور المشكلة والتفاصيل التي أدت لبروز هذه السمات، فإنّ آثار ونتائج السياق الذي نشأ فيه (جيل الألفية) -حسب الدراسات- يبدو مماثلًا لسيماء (جيل الهباء)، ولذلك إظهار الخشية وإبداء القلق سيبدو منطقيًا حين أرى مراهقًا في (انستقرام) متكئًا أمام الكتب، يصنّف الشيخ الفلاني والمفكّر العلاني ويقيّم النتاج ويوجّه الأجيال وربما يفكّر في تشكيل مدرسته الخاصة، وآخرون لا يحتاج تجنيدهم إلا إلى نشيدٍ حماسيّ وتصويرٍ إبداعي وشخصٍ يُذبح أمامهم ثم يقول الذابح لهم وكأنّه يلقّنهم حروف الهجاء: إنّ هذا مرتد، وأنا مسلمٌ أقيم الحدّ.. فصدّقني، فيصدّقهم، ثم يُقال له: هذه راية كُتب عليها شهادة التوحيد، وهذا يدلّ على سلامتنا.. فصدقنا، فيصدّقهم، ثم أنشودة رائعة يتبعها من يقول: إننا مجموعة نطلق على أنفسنا خلافة، ونلبس العمائم، ونسمي أنفسنا بجنود الخلافة، ونأتي بآيات الجهاد متزامنة مع مظهرنا ونحن نتبختر أمامك ما يعني أنّها تعنينا بلا شك.. فصدّقنا، فيصدّقهم، ولو كان تصديقه للكتاب والسنّة بمثل تصديقه لهم لبلغ مراتب الصدّيقيّة!!.

   وسيبدو منطقيًا أن أقلق وأنا أرى مرحلةً من مراحل (الهباء) تبدو جليّة أمامي، فيظهر التافه السخيف الفاسق المستغرق في الترفيه طول حياته القصيرو يتكلّم في شؤون الأمّة من فلسطين لأفغانستان لمصر لمسلمي الصين ويناطح العظماء والعلماء والمتخصصين جرحًا وسبًا وتصنيفًا، ثم أراه على ذلك يُصدّر من أبناء الجيل في واجهات الإعلام وعلى المنابر.

   لذلك، أعتبر أن أخطر ما نراه من هذا الجيل هو تحول (مشروع التوبة) عند أفراده إلى (مشروع تجنيد)، بسبب حرمانه في حياة ما قبل (التوبة!) من التعرف على حقيقة التدين في مواضعه المعروفة والآمنة والعظيمة: المنزل المعين له على تقوى الله، والمسجد، حلقة تحفيظ القرآن، برامج التوجيه الوعظي والعلمي في المراكز.. عفوا النوادي الصيفية والتوعيات الإسلامية.. وغيرها، بسبب تشويهها ومضايقتها، ليقع من مخالب أدوات الترفيه التي أعمته تمامًا حتى عن واجبات الحياة بل وحتى عن إظهار أبسط ملامح الرجولة والتعقل في وجهه، فيتحول إلى غريب أطوار في فسقه وغريب أطوار في توبته، ويقع في الجهة المقابلة في مخالب الجهات الاستخباراتية التي تجنّد أمثال هؤلاء تحت ستار العودة إلى الدين، والتوبة إلى الله.. كالمستجير من الرمضاء بالنار!

   ولي الحق أن أبدي خشيتي وأنا أرى الفتاة من هذا الجيل ترى السفور ومخالفة كلّ أمرٍ رباني لها قضيّة تستحق التضحية من أجل إقرارها، والتصدّر لأجل ذلك، فتجعل من نفسها رأسًا في قضيتها فتعيد تكرار النماذج البائسة التي نجحت في قضاياها ولم تجلب لبلادها العربية (بعد أن توهّمت أن ما تصنعه إنما هو محطّة في طريق التطور والتقدم) إلا الفتنة من قلة الأمن والفقر وانتشار الفواحش وآثارها حتى هبطت بلادها إلى الدرك الأسفل من الحضارة، فلا وقفت عند أوامر ربها، ولا تقدّمت بمجتمعاتها.

   وآخر يسخر ممن قضوا دقائق عمرهم وحياتهم في تكرار الكتاب والسنّة، مقرّ الهداية، وفصل الخطاب، ومردّ المختلفين، ثم يأتي شاب غرّ سفيه يخلط بين النازعات والمرسلات ويظهر منتفخًا يحمل سلاحهُ ويلوّحُ بألعابهِ القاتلة يُصدّر فعله وقوله ويزبد ويرعد في قضايا الأمّة ودماء المسلمين وغير المسلمين (وهو غير مؤهل للحكم في دماء الحيوانات!)، ويتخيّل (دمية العرائس) أنه يقف مواقف ابن الوليد وصلاح الدين وابن المختار حاشا جنابهم أن يزاملوا سفهاء الأحلام وحمقى العقول.

   ومن المنطق والذوق كذلك أن أحسّ بتأنيب الضمير وشيء من الاعتراف بسلوكيّات جيلنا وممارساته وأنا أطالع في سير العلماء وجهودهم.. وبركة وقتهم، وكيف كان أحدهم يقف على سلّم مكتبته الساعتين والثلاث حاملًا كتابًا واحدًا لتوثيق مسألة أو الإيعاز لدليل واحد، بينما لم يستغرق منّي الأمر دقائق معدودة وعبر أيقونات المكتبة الشاملة في إنشاء هذا الهامش المبهرج أمامكم بالأرقام، وفي وسعي أن أبهرجها أكثر لأنتفخ أمامكم أكثر، وعلى هذه النعم نحمد الله تعالى، ومن آثارها نحذر ونحذّر!

   وبما أنّني (أمون) على أفراد جيلنا لأنني من طبقته الأولى عمرًا؛ فإنّني أدعوهم وأحثّهم على مواجهة الآثار المظلمة لطبيعة الحياة التي نعيشها بالتواضع والمعرفة الحقّة بقَدْر النفس وقُدْرتها مع توقير أهل العلم والتخصص والمعرفة وإدراك درجتك المعرفيّة حقّ الإدراك، فالانتفاخ بذرة الشرور والتعالم شرارة للفتن، وأقلّ هذه الشرور ضياع عمرك في وهم العلم فتحسب أنك على شيء ولست على شيء، وأعظم الفتن ما رأيناه ممن فتك بأقرب الناس إليه وأحسن الناس ظنًا به في مشاهد لا يمكن أن تزايل ضمائر العقلاء ونفوسهم زمنا طويلًا.

___________________________________

(1) سنن ابن ماجة: 3959.
(2) صحيح البخاري: 3176.
(3) صحيح البخاري: 7121.
(4) صحيح البخاري: 100، صحيح مسلم: 2673.
(5) المعجم الكبير للطبراني: 685.
(6) صحيح مسلم: 186.
(7) مسند أحمد: 7912-13298، سنن ابن ماجة: 4036، السلسلة الصحيحة: 1887.
(8) مسند أحمد: 4286، سنن أبي داود: 4258، السلسلة الصحيحة: 3254.
(9) مسند أحمد: 10724، السلسلة الصحيحة: 2772.
(10) مسند أحمد: 3870، الأدب المفرد: 1049، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 428، وراجع ذخيرة العقبى في شرح المجتبى: 34/105.
(11) المصدر السابق.
(12) المعجم الأوسط للطبراني: 7695، السلسلة الصحيحة: 2/3415.
(13) ارجع لمقالَي: (لماذا يكره الشباب الجديد التعب والانتظار والقيود؟) و(أريده وأريده الآن) لعمّار بكّار.
(14) من البَدَهيّ أنني لا أعمّم هنا، حتى لو أُطلق الكلام، فحديثي عن ظهورها في البعض خشية أن تكون شرارة لفتنة أو شر، وعن إطلاق الكلام أو (التعميم) يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وقول القائل: إن الرافضة تفعل كذا، وكذا المراد به بعض الرافضة، كقوله تعالى: ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله﴾، ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم﴾ لم يقل ذلك كل يهودي، بل قاله بعضهم، وكذلك قوله تعالى: ﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم﴾ المراد به جنس الناس، وإلا فمعلوم أن القائل لهم غير الجامع، وغير المخاطبين المجموع لهم» الفتاوى (1/36-37).
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال