جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة



   (... فلان أزال علّان!).
 
   هذه الجملة كفيلة بإثارتك لتدخل تطبيق whatsapp مباشرة، ستبدو وكأنّك تتجوّل مكتئبًا بسيارتك في عصريّة مملة، ويدك تكاد تخترق خدّك من الارتخاء، ثم يلمح طرفك مواطنًا أربعينيًا قصيرًا يحرّك يده في أقصى الشارع المجاور، مزبدًا ومرعدًا على عاملٍ باكستاني لو لوّح بيده لهبّت عليك شرقيّة!، وهذا كافٍ لإثارة نهارك ذلك اليوم.

   ما الممتع أكثر من هذه الجملة؟

   الجواب: سبب ظهورها!

   إن للناس طرائقهم الطريفة في افتعال المشاكل بينهم في أي مكان.. أي مكان تختاره، أنت اختر المكان وأعدك أن المشاكل قادمة في الطريق، هذا الإبداع والابتكار لدى البشر سبّب الجنون للبعض فتفلسفوا عن طبع الإنسان وشرّه وأجروا تجارب كئيبة لوضع النظريات والقواعد حول ذلك.

   أعتقد أن الدكتور فيليب زيمباردو نادمٌ حاليًا على تجربة سجن ستانفورد التي قام بها بعد أن أدرك whatsapp وtelegram، فبدلًا من الرعب الذي جرى لأطراف التجربة بالإضافة للمصاريف، كان عليه أن ينتظر عدّة عقود ليظهر تطبيق whatsapp ويضيف البعض كمشرفين والبعض كأعضاء، ولن تتعدى نتائج المشاكل الحتميّة مسألة: (فلان خرج من المجموعة) و(علّان أزالك من المجموعة).. إلخ، وبلاها ساديّة ووجع رأس.

*          *          *

   وعلى ذكر المشاكل في whatsapp، تخيّل معي أن تقابل شخصًا عرفته أم لم تعرفه.. لا يهم، ثم يقول لك: أنت ما تفهم!، وملامحه كملامح هذا الشخص في الصورة:


   ماذا كنت لتفعل في هذه الحالة؟ ستتوقع الأسوأ بلا شك.

   إذن عليك إدراك أن كتابة جملة مازحة دون تضمين الابتسامات في دردشاتك مشابه لهذه الحالة، وكم من سوء في الفهم صار بسبب الغفلة عن أهمية هذا الأمر، حتى الشيطان سيتفاجأ بسرعة التحريش، وسيجد نفسه كلصٍّ خطّط وفكّر وقدّر وتجهّز ليدخل المنزل من النافذة ثم يجد البوابة الرئيسية مفتوحة أمامه على مصراعيها!!

   فكيف بالله عليك لو أن كاتبها لا يجمعك معه تلك المعرفة التي تسقط معها الكلفة، لكنّه قرّر أن يسقطها في تلك اللحظة!! وبدأت ملامح (الميانة) ترتسم في محيّاه.. لكنّك لا تراها، لأنّ الكلمات لا ملامح لها.. طبعًا!، حينها سيجد الشيطان نفسه هذه المرة كاللص أمام ذات البيت المذكور، بعد أن خطط وفكر وقدّر ليقتحم نوافذه، ليجد ذات البوابة الرئيسية مفتوحة، لكن هذه المرة أهل البيت يستقبلونه بالتحايا ويقولون بفرح واحتفائية: أهلًا.. تفضل اسرق!! ياللرعب!

   لنعد إلى تجربة سجن ستانفورد، التي أراد الباحثون فيها فهم معالم السلطة وقوتها إذا وقعت بيد البشر، وللقيام بذلك تكلّفوا فاضطروا لتهيئة سجن، واستئجار من يختار أن يكون سجينًا، ومن يختار أن يكون سجّانًا، مع صلاحيّات حقيقية، وسلطة واسعة للحرّاس.

   بينما الأمر لا يحتاج في أيامنا إلا لأيقونة كُتب فيها باللون الأحمر (إزالة فلان!) للوصول إلى ما أرادوه، سلطة بسيطة كهذه، وتجربة، كافيتان لفهم معالم السلطة وأثرها عند بعض المخلوقات.

*          *          *

   ثم لندع (مدراء) القروبات جانبًا، وكفانا تشغيبًا على سلطاتهم، ولنتحدث عن جميع المتواجدين في القروب الواحد، ولأتطرّق إلى أكثر ما يخرجني من طوري في عالم whatsapp، وهو غلبة الشعور بوهميّة هذه التطبيقات الاجتماعية، ثم يصبح هذا الشعور من القوة بحيث يجعلنا نحسب أنّ وهميّة هذه الخدمات يجعلها لا تقبل حقائق الأخلاق في التعامل والسلوك.

   هل جرّبت أن تتحدث في مجلسٍ ما أو تسأل، ثم يقفز أحدهم كأرنبٍ ويقاطع حديثك؟ فتقول -مثلًا-: أرأيتم احتفالية كذا؟ ليرد بعدك مباشرة وكأنك لم تتحدث: أسعار الدجاج انخفضت! فيدرك أحد الخَلُوقين (والذي سيكون بطلك) المجلسَ ويقول بصرامة: «وحّدوا الحديث والمجلس يا جماعة!»، هذا إذا لم يزجروه مباشرةً عن مقاطعتك، وربما يحفظها أحدهم في نفسه، ثم يسعى لمقابلة هذا الجريء فيما بعد ليهديه كتابًا عن أدب المجالس وعلى صفحته الأولى كَتب له إهداءً ختمهُ بمقولة: هَتَفَ العلمُ بالعمَل! وهذا على افتراض أنك لست في مزاجٍ جيّد للشجار!

   الحقيقة أنه سيكبر بعينك أولئك المدافعون عن سياق حديثك، وربما تُصاهرهم يومًا، فلحديث الشخص أهميّة عظيمة في نفسه، يحزنه أن يقاطعها أو يحرفها أحد ما.

   هذا في مجالسنا، أما في هذه التطبيقات، فيغلبنا الشعور مرّة أخرى بوهميّة whatsapp، فتسأل سؤالًا مهمًا لديك، لتُصدم بأن الكل يتتابعون (وعلى رأسهم بطلك، وصاحب كتاب أدب المجالس!) على إهمالك وسؤالك وحديثك، ليطرحوا موضوعًا آخرَ وكأنك فاصلٌ من إزعاج، وربما أمعنوا في غيّهم، ووصل شعورهم بالوهمية إلى اعتبار وهميّة مشاعرك، فلا تستغرب أن تجد أهيل هذا القروب كانوا في سباتٍ عميق، قد مضت عليهم أيامٌ ما طبعوا حرفًا فيه، ثم تتذاكى حضرتك فتظن أن الجوّ قد خلا لاستفهاماتك وفضولك، فتستغل حظك السعيد وهذا الهدوء لتبْسُط السؤال، طمعًا في بسْط الإجابة، وكأنك صاحب سؤال (الداء والدواء)، وكأنهم ابن القيّم رحمة الله عليه، لتُصدم بأنهم يستغلون سؤالك لأمرٍ واحد: الحديث عن أمرٍ آخر!!، كأنك أردت الرجوع بسيارتك للخلف، فحركت ذراع السرعات، وأدرت رأسك للوراء، ثم تتفاجأ أن السيارة تتجه للأمام.. أي نعم.. هو بعينه ذلك الشعور المقرف الذي تعرفه جيدًا! 

*          *          *

   وعلى ذكر القرف في هذا العالم، لا شيء يثير الشفقة أكثر من قروبٍ مستمر يجمع رابطة منقطعة، انحلّت علائقها عن العين، وظلَّ الرابط الإلكتروني يبقيه الخجل من المبادرة الأولى لبعزقتها.

   رجاءً.. لا تربط الأمر هنا بمدى وفائي أو خيانتي، بل بواقع الحال، هو اختبارٌ جَبْري مرّ ليكتشف الإنسان مدى صبره على مقتضيات الوفاء، يا لها من حالٍ كئيبة أن تقبع في المكان كي ترى أثر الزمن على أرجائه، فتراها تتصدع يومًا بعد يوم، إلا من مجاملة باسم الوعظ والتذكير، ومصانعة في العيد والجُمُعات، بينما تبصر ألوان الخُلطة تخفت صبغتها حتى تبهت وتنمحي. 

*          *          *

   أتدري.. لقد راجعت نفسي (وذاكرتي!) فاكتشفت أمرًا آخر يثير الشفقة أكثر!

   للإنسان مجرّات مختلفة في حياته، مجرّة الأصدقاء، ومجرة العمل، ومجرة العائلة.. وغيرها، فإن دخلتَ مجرّة الأصدقاء (كمثالٍ)، أبصرت فيها كواكب مختلفة، فهناك أصدقاء يجمعك معهم اللهو واللعب، وهناك أصدقاء آخرون يجمعك معهم ارتباط هوايات واهتمامات، وآخرون تجتمع معهم على شراكة عمل، وهناك أصدقاء تجمعكم زمالة تطورت خارج حدود العمل.. وهكذا، أنت أمام كواكب مختلفة لو اصطدم أحدها بالآخر.. لحصلت كارثة تربك مجموعتك الشمسية كلها، فتقوم قيامتك!! فكيف لو كان هذا الالتقاء بين المجرّات وليس الكواكب فقط!! كمجرّة العائلة والأصدقاء مثلًا.. يا إلهي، لا يمكنني أن أتخيل ذلك، أعتقد أن البعض لن يتخيل؛ لأن هذا وقع معه بكل أسف، وربما ستدمع عينه هو يقرأ أمثلتها القادمة.

   كأن تتحدث مع أصدقائك حديثًا خاليًا من الكلفة ثم ترسله لقروبك في العمل، أو تحادث زوجتك ثم تكتشف أنك أرسلت المقطع الصوتي إلى قروب أبناء العم، والمصيبة أن تكتشف حصول ذلك في تلك الأجزاء من الثانية التي علقت فيها الرسالة بين ضغطك لزر الإرسال.. ووصولها لهم، تلك لحظات مفزعة ومخجلة.. ومثيرة لإحباطٍ لا تمحوه دورات التنمية كلها، ولو كانت مشاعرًا في الدين لاعتُبرت قنوطًا لا ينفع معه الحديث عن أمل!

*          *          *

   وكقائدِ جيشٍ يُستغفل فيُفَاجأ بمن يحيطه من الخلف وهو منشغل إذ يقتحم بجيشه الصعاب والحشود أمامه؛ تكون مشغولًا (أو موهومًا) بالقروبات واهتماماتها وشؤونها وكلّ ما ذكرنا، ثم يأتي من يضيفك لقروبٍ لا يعترف بنظريّة المجرّات التي جرى شرحها، فلا يبالي أن يضيف صديقه في الجامعة، مع مدرّسه في الثانوية، مع ابن عمّه، مع زميله في العمل، وهو قنوع بما يفعل، لأنه... هيه!.. إنّه أنا!.. أنا صاحبكم، معرفتي بكم تكفي لتكون المِشبك الذي يجمعكم في هذا القروب، وفي تلك اللحظة سأكون لبقًا وأكتب: (شكرًا على الإضافة أخي فلان) ثم سيكون بالي كله منصبًّا على فكرة: هل أغادر أوّل واحد فأكون صاحب الصدمة الأولى لمشاعره (وسيتذكرني!!)، أم أنني سأنتظر وأصبر على هذا الارتباك حتى يخرج مجموعة قبلي («انغماسيّوا» المشاعر!) ينالهم العتب والكره والحقد.. فأندسّ من خلفهم، وأتسرّب من أي منفذ؟!

   هذا هو المتغيّر، وهذا وعدي لمشاعره، أما الثابت فهو أنني لن أبقى ثانية واحدة في هذا القروب حينما تتاح لي أدنى فرصة، هذا المبدأ يظهر بمجرد إضافتي، ثم سأؤمن به وأجيز الغلوّ فيه والعمل، والسؤالان المطروحان منذ تلك اللحظة هما: متى؟ وكيف؟ 

   هل أنتَ جاد بإضافتك لي لهكذا قروب؟! الخلق مشغولون بتهالك الباقي من القروبات، ومختبؤون ممن اتصل عليهم فلم يردّوا عليه كيلا يكتشف وجودهم في whatsapp بُعيد الاتصال المهمَل.. فتتكامل الأدلّة، وتثبت تهمة «التصريف»، ويضعون الجوّال على وضع «الطيران» ثم يقرؤون الرسالة ويحذفونها كي لا تُكتشف قراءتهم لها، ويحملون همّ التأكّد من اسم القروب قبل بعث الرسالة عند كلّ إرسال، وينشؤون قروبات أخرى (موازية) لتصريف بعض الأسماء في القروب الأصل، ويمثّلون أنهم متواجدون فيه، ثم تأتي بعد هذا الهمّ كله لتحمل عليهم أثقالًا مع أثقالهم؟! ليس عدلًا يا صاحبي.. ليس عدلًا.

   أنا فعلًا أطلت الحديث، ويجب أن أتوقف فورًا؛ لأنني لا أريد -صراحة- الكلام عمن يعلنون للملأ توقفهم عن التواجد في whatsapp، أو أنّهم سينقطعون فترة عنه، في حين أنّك لم تعلم بوجودهم، أو بوصفٍ أدق: لم تعلم بوجود ذلك المدى من تأثير وجودهم بالنظر إلى محدودية نفع whatsapp وأثره مقارنة بغيره، وترجو أن تعرف بحق: ما طبيعة الوجود المهم جدًا الذي كانوا يمارسونه في whatsapp، ويحتّم عليهم إعلام الجميع عن خبر التوقف؟!

    كما أنني سأقاوم رغبتي في إخباركم عن معنى كتابة الضحكة (هههههه) في أطراف حديثك مع الآخرين عبر الواتس، وأنها إن جاءت في آخر لياقات الحديث، فمعناها: افرنقع من أمامي، انتهي الحديث.

   يا ألله! كلما انتهيت من فقرة ترتبط بمغامرات whatsapp اتصلت ببالي فقرة أخرى، يبدو أن تجربة سجن ستانفورد أرحم !

.
تعليقان (2)
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

  1. ما هذا الجمال وما هذه الديناميكية في التفكير والتنقل السلس من فقرة لأخرى !
    حباك الله موهبة فلا تجعلها تنضب كما نضبت أرواح كانت عامرة بكل جميل لكنها كانت ضعيفة فغابت في الظل <

    ردحذف
  2. تسلم عزيزي على الكلام الجميل، والله يعيذنا وياك وأحبتنا من النضوب والعجز والكسل.

    ردحذف

إعلان أسفل المقال