جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


   في مقال الأسبوع الماضي عرضتُ ملخصًا لمحاضرة الدكتور مصطفى الحسن والتي كانت حول القراءة لبناء التصور، وذكر فيها أن القراءة حين يُهدف منها المعلومة فقط، فإن تصنيف الروايات والقصص في درجة الأهمية والأولوية يصير في ذيل القائمة.. أو قريبًا منها.

   وأن القارئ حين يهدف إلى صناعة العقل وبناء التصور بالقراءة والاطلاع، فإن الرواياتِ والقصصَ ترتقي في التصنيف لتصير في أعلى القائمة بعد الكتب العلمية.

   وهنا.. سأذكر رأيًا مقابلًا لذلك الرأي، شهيرٌ، وفي غالبه غير منصف، وسنكتفي منه في هذا المقال بالمنصف المعتدل. 

   هذا الرأي يعيد الروايات في ذيل التصنيف، وربما في وسطه، دون أن يُرجع ذلك إلى باعث المعلومة (كما هو المعتاد عند الآراء المحذّرة منها والحاثّة على تركها)، بل يفصّل في ذكر أسبابٍ أخرى أعمق وأشمل.

   مما اشتهر به الأديب المصري الشهير عباس محمود العقاد انصرافه عن قراءة الروايات والقصص، وعدم احتفائه بها.. مع تخصصه في الأدب، واهتمامه بفنونه، وحين سئل عن ندرة مؤلفات هذا الفن في رفوفه قال: «لو أنّ نصيب القصص من مكتبتي نقص بعد هذا لما أحسست بنقصه »(1) ثم بدأ يفصل في أسباب هذا العزوف، قائلًا:

   «إنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهما الأداة بالقياس إلى المحصول، فكلما قلت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الفن والأدب، وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف»(2).

   والأداة يعني بها الوسيلة التي تعبر بها عن المعنى، أي أنه يقصد اللفظ المكتوب وأساليبه في رصفها.

   ثم قال العقاد: «وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات.. إنّ خمسين صفحةٍ من القصّة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيتٌ كهذا البيت:

وتلفّتت عيني فمذ بعدت *** عني الطلول تلفّت القلب»

   ثمّ قال: «الأداة هنا (ويقصد في هذا البيت) موجزة سريعة، والمحصول مسهبٌ باق، ولكنك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب»(3).

   إلى هنا.. انتهى كلام العقاد، وأظنّ أنه أكثر الآراء المعارضة إنصافًا، فالبعض غلا في العزوف عنها إلى درجة حث طلاب العلم والمعرفة على اجتنابها مطلقًا بزعم انعدام الفائدة منها بإطلاق، لكنّ العقّاد كان أشمل في رأيه، إذ يرى أن الرويات كثيرة الألفاظ قليلة الفائدة بكل أنواع الفائدة التي يبحث عنها القارئ: معلومة، تصور، رأي.. إلخ. 

   وبقي بعد إيراد كلام العقاد أن أذكر رأيي في هذه المسألة في عدّة نقاط، دون الخوض في التفاصيل الأدبية التي اجتذبها التيار المخالف لرأي العقاد.
  • أولًا: كثيرٌ ممن لا يحتفي بالروايات ويحث على تجنبها، يحتفي بكتب الأدب التراثية الزاخرة بالقصص، كالمجاميع والمختارات والمقامات ونحوها، بل عرف عن بعض العلماء والأئمة المختصين بالعلم الشرعي حفظهم لبعض تلك المؤلفات عن ظهر قلب، بحجّة: تقويم اللسان، وحشد المصطلحات، واستيعاب المعاني.. ونحو ذلك، وأرى أن الروايات البديعة والراقية داخلة –في أقل نظرةٍ لها- في هذا التأثير.

  • ثانيًا: التسويق لكثير من الروايات الرديئة أدبيًا.. والسافلة أخلاقيًا.. والمبتذلة فكريًا، ثم دخول الكثير من التافهين للارتزاق من مزايا الرواية أموالًا وشهرةً كما هو الحال اليوم ومنذ عقود، لا علاقة له بفنّ الرواية والقصة مطلقًا؛ بل المسألة بكل بساطةٍ ارتفاع سوق الرواية بين الناس.

    فأي فنٍّ من الفنون لا يدخله في بداياته المتواضعة إلا المخلصين له، من لا يطمعون من ورائه شيئًا، بل تجدهم يرهقون أنفسهم في سبيله ماديًا ومعنويًا، فإذا اتسع تأثيره بين الناس، بدأ يدخل هذا السوق كل من هب ودب لغرض الشهرة أو المال.. أو البرستيج، أو كلها.

    والشواهد على هذه الفئة المرتزقة لا تعدّ ولا تحصى، شواهدٌ سياسية وفكرية.. وحتى ترفيهية، وهذه الأيام نرى ما يحصل في معرض الكتاب في الكويت (وعندنا وعندهم خير) من سفالةٍ وتفاهةٍ تُقطع الأشجار وتُدار المصانع وتُشحن البضائع ليهدر في النهايةِ الحبرُ الثمين على الورق النفيس لنشر هذه التوافه التي لا تطاق، ولو نشر غسيل السطوح في ممرات معرض الكتاب لكان المنظر يجسد معانيه في النفوس أعمق وأرقى مما يتقيأ البعض على أوراقهم، حتى صار وجودهم حتميًا ومعتادًا للأسف.

  • ثالثًا: التأثير الفكري والاجتماعي والسياسي للروايات والقصص عمّت شهرته الآفاق، ولا مجال للنقاش فيه، فالسياسي خشي الكثير منها ومنعها وتصدى لها وأمثلة ذلك لا تعدّ ولا تحصى، وأصحاب كل ديانةٍ سعوا لمنع ما يخدش ثوابتهم في الروايات وعلى رأسهم المسلمون وعلمائهم وأدبائهم ومفكريهم، وتقدّم كل إنسان غيورٍ على الأخلاق لمواجهة تأثير الروايات الساقطة التي يسترزق بها البعض من وراء استفزاز الناس في قيمهم.

    وفنٌّ بهذا التأثير، لا شكّ أنه وسيلة مهمّة للغاية في زماننا للوصول إلى الفئات التي خشينا عليها في الأصل من رديء الروايات وخبيثها، فلا يجتمع أن يقلقنا تأثير وسيلةٍ ما والتحقير من شأنها. 

  • أخيرًا.. الإنسان المدرك بأن الحكمة ضالته، سيتذوق الحياة وحكمها وسننها ولو كانت على لسان شيخٍ مسنٍّ غير متعلم، لكن ينضح عقله بالحكمة والتجربة والشعور وأسرار الحياة، فكيف لو كتبت كقصةٍ ورواية؟! ما الفارق هنا؟ لماذا نقبل التصوّر والنصح من أمثال هذا، ونفتخر به، ثم نتعامى عنها في الروايات؟!

    فحيثما أحسن المرء الانتقاء منها، وأجاد نقد ما يجمعه من القصص والروايات، وطلب منها ما يليق بروحه وعقله وقيمه، ولا يرضى بما هو دون ذلك.. كانت الحصيلة التي يكسبها على قدر إحسانه وإجادته.
_____________________________
(1) أنا، عباس محمود العقاد، ص 226.
(2) المصدر السابق: 227.
(3) المصدر السابق: 227، 228.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال