جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


   « المعارف التي نجمعها من التجارب والكتب محصولٌ نفيس، ولكنه محصولٌ لا يفيدنا مالم نغربله ونوزّعه على مواضعه من خزائن العقل والضمير »(1).

   بعث لي أحد الأصدقاء مقالًا للروائي حجّي جابر، يثني فيه على محاضرةٍ لأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد الدكتور مصطفى الحسن بعنوان (صناعة العقل)، ويستعرض أبرز ما فيها، مما دفعني لمتابعة هذه المحاضرة عبر يوتيوب(2).

   والمحاضرة كما ذكر الكاتب في مقاله: بديعة.

   ولأن الروائي حجي جابر التقط من هذه المحاضرة ما له علاقة بتخصصه كروائي؛ لأن المحاضِرَ مثّل على الروايات بالنص.. فقد جاء عنوان مقاله باسم: (لماذا نقرأ الروايات؟).

   لكنّ المحاضرةَ أعمقُ بكثير من المثل المضروب، وهي تهمّ كل قارئ؛ لأنّها من الأفكار المصيرية، لتأثيرها الواسع على فكر الإنسان ووعيه وسلوكه المعرفي.. ونتاجه.

   في إحدى المحاضرات زمن الجامعة أمسك أحد الأساتذة عن الكلام، وأطرق برأسه، ثم استطرد مبتسمًا فقال: لماذا يقرأ البعض الساعات الطوال، مداومًا على هذه العادة عمره، ويمرّ على آلاف الكتب وعشرات الفنون.. ثم لا تجد من أثر هذه القراءة شيئًا يُذكر؟ فإذا قصد إلى تأليف كتابٍ أو إلقاء محاضرة، لا يسوقه عقله إلى تلك الأفكار الخلاقة التي تشكّل نظريةً أو تضفي على رأيه أصالةً وجِدّة؛ بل مجرد بريد معلومات، ثم قال بالعامية: فما يخرج من هذا الجهد بعد هذا العمر إلا غبيًا يعرف أمورًا.

   ولم ندر حينها أكان الأستاذ يسألنا أم يفكّر بصوت مرتفع.. فلم نحر جوابًا، لكنه كموزّعي إعلانات الأعمدة، ألصق هذا التساؤل في أذهاننا.. ثم مضى.

   ولا يزال هذا التساؤل يصادفني من حينٍ لآخر، فعندما تمرّ عليّ صورةً لمكتبة أحد الأئمة الأعلام، فلا أجد إلا رفوفًا قليلة، لكتبٍ لا يليق عددها إلا بطالبٍ مستجدٍ لمّا يزل في مرحلة الجمع والشراء والتكوين، ثم أتأمل نتاجه وأثره وتجديده وبروزه كمدرسة يتأثر بها الملايين.. أجد العجب، وأصادف هذا التساؤل.

   ومثله حين أقرأ في سير بعض المجددين.. تركيزهم على سفرٍ من الأسفار، وتكراره زمنًا طويلًا يفي بقراءة مئة مؤلَّفٍ، ثم أطالع أثره وعمق ما أبدعه.. ألتقى تساؤلي، وأبحث عن الحلقة المفقودة.

   وإن كان بعض الكتاب والعلماء تساءلوا وفسّروا كثرة مؤلفات الإمام النووي مقارنة بعمره، فما تفسير هذا العُمْق والأفكار الخلاقة في التأليف مقارنة بحياته القصيرة.

   يقول الدكتور مصطفى الحسن ما ملخصه: التصور الشائع بين القراء أننا نقرأ من أجل المعلومة فقط، وهذا يصور أن المثقف والعالم هو من يعرف أكبر قدر من المعلومات.

   ثم ذكر أثر هذا التصور في تصنيف درجات أهمية الكتب، من الكتب العلمية في أعلى القائمة.. إلى الصحف والمجلات في أدناها.

   ونبه على أثر آخر لهذا التصور على السلوك القرائي، فأصبح المرء يسابق الزمن كي يقرأ أكبر قدر من الكتب، للحصول على أكثر قدر من المعلومات.

   كما أن السعي لجمع المعلومة –كما نبه على ذلك بذكاء- يعيد ترتيب التصنيف الذي ذكرته قبل قليل، فتهبط الكتب العلمية من أعلى قائمة الأهمية، ليتربع الانترنت على عرش هذا التصنيف بلا نزاع، إذا امتلك الإنسان مهارة جيدة في البحث، كما أن الصحف والمجلات تعلو قيمتها، لتصبح الروايات والقصص (مهما بلغت أهميتها وعمق أثرها فالعبرة هنا بالمعلومة) في أدنى القائمة.

   ثم ذكر الدكتور تنبيهًا من أنفع ما سمعت أو قرأت عن أثر القراءة وأساليب الانتفاع منها، على مبالغتي في تتبع هذه الوسائل والكيفيات زمنًا، لكن لم أجد والله أنفع من هذا التنبيه، لما له من أثره عميق في اتجاه الذهن، وهو أن (جمع المعلومات) ليس القصد الأهم؛ بل (بناء التصورات) هو الغاية الجديرة بالعناية، ومن أثر استدعاء هذا التنبيه في ذهنك في تخطيطك وتهيئتك –كما نبه الدكتور.. وزدت عليه-:
  • استحضار هذا الأمر يعيد تصنيف درجات أهمية الكتب، فتتربع الكتب العلمية على عرش القائمة (وهذا بالمناسبة ينبهك على أن سياق الحديث السابق عن القراءة لأجل المعلومة جمعًا وحفظًا لم يكن بغرض تحقير هذه الغاية.. أو تحقير الكتب العلمية، وإنما غاية الأمر أنها وسيلة من وسائل بناء التصور وصناعة العقل)، إذن.. الكتب العلمية تتصدر القائمة، وتليها الروايات والقصص، وقريبًا من ذيل القائمة الصحف والمجلات، أما الانترنت (ومحركات البحث العامة والخاصة) فيقبع في ذيل القائمة، فهو –برأيي- الماكينة التي يخيط رويبضة زماننا (ثوب الزور)(3).

  • تغيير طريقتنا في القراءة؛ لتصبح القراءة تأملية بطيئة متأنية، يمارس فيها العقل أعلى درجات حضوره، ومن أساليب بعض القراء أنه يعزل أهم كتب تخصصه في رفوف بعيدة عن كتب الفنون الأخرى، ليضعها بمكانة أشبه بدرجة رجال الأعمال في الطائرة، ويعطيها مزايا خاصة، ويعتني بها، ويتبع معها طول عمره فكرة بناء التصور وأساليبها، ولا ينقطع عن القراءة والاطلاع فيما عدا ذلك.

  • يستحيل أن يكون الإنسان قارئًا (مهما كان غرضه من القراءة وكيفما كان أسلوبه فيها) ولم يمرَّ عليه يومًا كتابٌ أثر فيه، وتأنى في قراءته، وتوقف عند صفحاته كثيرًا، يتأمل أفكاره، وينفذ إلى بواطنها، ثم وجد أثناء اطلاعه وبعده أفكارًا وآراءً ومقدارًا من التصورات تخلقت من هذه القراءة، وربما لو قيدها وأحاط بها لأنتج منها مقالات ونقاشات وربما كانت نواةً لمؤلَّف أو مشروع.

    فكيف لو كانت قراءتنا في تخصصاتنا واهتماماتنا الأساسية على هذه الطريقة؟!.

  • القراءة لبناء التصور ستغير عاداتنا مع شراء الكتب وجمعها، وبناء المكتبة الشخصية، وتقسيمها.

  • أخيرًا.. بعد توفيق الله تعالى، أزعم أن هذه الفكرة لها أثر عظيم في نتاج القراءة وعمقه وأثره وامتداده على كتابات الشخص ومؤلفاته ومشاريعه ومحاضراته، فبدلًا من الاختباء خلفَ الجمعِ والتحقيق، والسلامة بتكرار المعلومات بعناوين جديدة، ليصبح (مصلحة بريد!) أو كما يُقال: «موصل رسائل»؛ ستبرز لديه أفكار خلاقة في الكتابة والتأليف، ونظريّات ورؤى جديدة داخل تخصصه، أنفع وأكثر خلودًا وأعظم أثرًا.
_____________________________________
(1) عباس محمود العقاد، السيرة الذاتية: أنا، ص: 118.
(2) رابط المحاضرة: (صناعة العقل، مصطفى الحسن).
(3) عن ‏ ‏أسماء بنت أبي بكر ‏-رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ‏« ‏المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي ‏ ‏زور » متفق عليه. قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى: (المتشبع) أي: المتزين بما ليس عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل ... وأما قوله: كلابس ثوبي زور فإنه الرجل يلبس الثياب المشبهة لثياب الزهاد يوهم أنه منهم ويظهر من التخشع والتقشف أكثر مما في قلبه منه.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال