جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

إعادة-تصنيع-إنتاج-تكرير

في صغري، كنت عند أخوالي في مدينة الخفجي في إحدى العطل الصيفية أعبث صباح يومٍ بين الأغراض، فوجدت رواية للكاتبة المعروفة أجاثا كريستي، جلست عليها قرابة الساعة ثم مللتها فرميتها ولم أكملها، لكنني شعرت أنني صنعت شيئًا مهمًا جدًا، وهو فتح كتاب حقيقي، وقراءة صفحات منه، فصرت أنتظر أي "طاري" وأتحيّن أي فرصةٍ في أي سياقٍ يسمح بذكر قراءتي للرواية ولو من بعيد، ولا مانع أن يتوهم السامع أنني قرأتها كاملة على طريقة: لم آمر بها ولم تسؤني، وطبعًا كانت طيحة الوجه والإحراج حاضرة حين لم أجد أي اهتمام مع أنني بحثت عن كل منفذ لذكرها بالغصب.

تذكرت هذا الموقف وأنا أقرأ مقالًا جميلًا للكاتب المعروف فهد الأحمدي، يذكر فيه إحصائيات عددية ورقمية لضخامة هذا الكون في سياقٍ تأمليٍّ مبهر يتخيل فيه سير رحلةٍ خيالية بمركبٍ فضائي ومدى البعد الهائل الذي تظهر عظمته كلما مرّت ملايين السنوات الضوئية على هذه الرحلة الفضائية، والذي ذكرني بموقفي هذا هو الردود التي حاست أمّ التأمّل، وخرّبت أبو الإبهار.. وجعلتني أستعيذ من بعض البشر على ثقالة الدم والحضور، وأمقت أكثر وأكثر أصحاب القضية الواحدة والسالفة اليتيمة، وهذه نماذج من ردود أصحاب السالفة الواحدة على مقال واحد واللي هو موضوع الأحمدي:

. وبعد 200 بليون عام سوف يتم إيجاد حل للقضاء على مشكلة ازدحام شوارع الرياض !!
. فعلاً يالعظمة الكون ويا صغر تفكير الصحويين !!

الرجل رحل بنا بعيدًا، وهؤلاء يعيدوننا إلى همومهم الشخصية وثرثرتهم التي لا تتوقف عن أفكار محددة ومعاد تكريرها مرات ومرات ومرات.

تكون محظوظا فتقع على مقالات تأملية وفلسفية ودينية ووعظية وأدبية.. ووو، ثم يأتي شخص واحد يأخذ كلمة، ويعطي السياق المحدد بالموضوع شلّوتًا محترمًا ثم يأتي بسياق آخر ممل حتى لو كان مهمًا: الفساد العام.. البلدية.. تثبيت الرواتب.. وووو من قضايا الناس اليومية، ويضع الجملة فيها، ويظن أنه قد قام بأمرٍ حكيم ومبهر.

البعض ينقل "سالفة" واحدة معه كما ينقل أحدنا مسباحه، يقلبها يمنة ويسرة في كل مجلسٍ ومنتدى، يبدأ مرّة بحرف عطف، وأخرى باستفهام، وثالثة بسخرية، ورابعة "على طاري!"، والسالفة هي هي، فلا تكاد تعرف هذا الشخص إلا بهذه السالفة والفكرة.

الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من هو في بلاغته وأخلاقه وجمال حضوره مع عصمة الوحي وتأييد الله وأفضليته على البشر وطرحه لقضايا عظيمة عن الكون والحياة، مع ذلك كله كان يتخوّل الناس بالموعظة خشية أن يسأموا، فما بالك بمن دون ذلك من العلماء والأدباء والمفكرين الذين يهابون التكرار ويخافون من سأم القارئ والمتابع على اتساع علمهم وجمال أسلوبهم؟!

كيف إذن بصاحب السالفة والسالفتين والفكرة والفكرتين؟! والتي لم يكتفي بتردادها فقط، بل أخذ يقاطع ويتداخل مع كل طرح ماله دخل بأمّ السالفة ولا أبوها كي يسجّل حضور سالفته معه.

الحياة والعلم والمعرفة وقضايا البشر أوسع وأجمل وأرحب من أن يحشر الإنسان نفسه حول فكرة أو خاطرة أو رأي أو همّ، تمسك غلط معاه فتستولي على عقله وفكره وروحه فيدور حولها لا يخرج عن حدودها، فتقيّد الحواس إليها، ويتحول الأمر في النهاية إلى ضجيج سامج ومكرر، ويندرج صاحبها إلى خانة الثقلاء:

قومٌ إذا جالستهم *** صدئت لقربهمُ العقول


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال