جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

الأمن الفكري والإرهاب العصري

فرحت كغيري من المهتمين بخبر إنشاء وحدات التوعية الفكرية في التعليم العام والجامعي، فقد أثبتت الجوانب المشرقة من التجارب المريرة والمظلمة التي مرت بها المملكة والمنطقة أن الرهان على الأسر التي أنعم الله على أبنائها بالوقاية من مقدمات الأفكار المتطرفة، فنجت من دوامة فتن سكنت في بلادنا لكن لا تأمن دورانها مرة أخرى، وكانت تلك الأسر ولّادة لنماذج (رجل الأمن الأول)، الذين تفرقت جهودهم بين المؤسسات الأمنية والعسكرية، وبين المؤسسات التعليمية والإعلامية، بين حاملٍ للسلاح وحامل للقلم وحامل للبصيرة النافذة في معركة استعرت لسنوات وانحدرت للهدوء الحَذِر.

الأفكار المتطرفة التي كانت رهينة الأوراق والخواطر تحوّلت لنوازل وفتن لم تزل تهزّ المنطقة مرّة بعد مرّة حتى تصدعت حصونها في الخريف العربي فانصبت عليها الفتن صبًا، وكالعادة، تحول كلام الفتنة المهموس إلى نار لها ضِرَام، وصرنا في منطقةٍ فقدت الكثير من ركائز أمنها لولا بقيةً من دولٍ راهنت بعد الاستعانة بالله على مقوماتها وتاريخها ووعيها في تدارك ما يمكن تداركه، من خلال ضبط الداخل، ومواجهة التحديات الاستراتيجية في محيط جيوسياسي هشٍّ بسبب التاريخ القريب المتخم بالأحداث والفتن.

وصار رهان الخلايا النائمة والمتربّصة على بقاء وميض الجمر تحت الرماد، وعدم انطفائه؛ بالعودة إلى نشر كلام الفتن، والهمس به، واستغلال التقنية، أو الفرار للخارج لتأجيجها من هناك؛ ليُخطف مرة أخرى من الجيل مَن يكون وقودًا لأقرب فتنة قادمة، وقد حصل هذا في أكثر الدول محافظة، وحصل كذلك في أكثر الدول احتفاء بالانفتاح والرفاهية، بل وقد رأينا تلك الأعداد المهولة القادمة من (العالم الحر) لتنضم لأشد التنظيمات تطرفًا، لأن التاريخ علمنا أن كلمة الفتنة قادرة على التجنيد والتحريض والاضطراب في كل طبقة وزمان ومكان.

لهذا جاءت أهمية (الأمن الفكري)، لمواجهة كلمة الشر بكلمة الخير، ومناطحة همس الفتنة بهُتاف السكينة والاعتدال، وأساليب اللمز والهمز بالإبانة والإفصاح، فتُعرِّفُ مؤسسات ولجان ووحدات الأمن الفكري (نواة المجتمع: الأسرة) على الجماعات الإرهابية المجرمة بمسمياتها الصريحة، وتكشف أساليبهم في التجنيد وإثارة الضغينة والتحريض بلا إشارات، وتوصِل معنى خيانة الوطن مع ذكر نماذج محددة لها، وتسرد تاريخ التطرّف بتفصيل جليّ، مع إحاطة كل هذا النشاط ورجاله بالأمان القانوني والأمني كي لا يراهن المتطرفون على إسكات هذه الأصوات بسلاح القانون والأمن والمضايقة الاجتماعية وغير ذلك من أسلحتهم القديمة، فيضربون منشآت الأمن الفكري بالمنشآت القانونية والأمنية لذات الدول التي يكفّرونها ويشيطنون مؤسساتها، ويضايقونهم بالمجتمع الذي يحتقرونه ويشيطنونه إذا خالفهم في فعالية واحدة.

من أعظم إشكاليات بعض أنشطة الأمن الفكري السابقة هو تفريغها من معناها ودَورها،‏ وعدم تفعيلها لما أقيمت له بحق، وملء كراسيه بشخصيات لا تشير للمواضيع بأسمائها ولا تحذّر بوضوحٍ مستمرّ من مكامن الخلل الفكري ومستجدّات أساليبه، والله أعلم بحالهم، لكنهم قطعًا بين قلة وعي بهذه الجماعات أو بطرق مواجهتها أو ضعف الإيمان بدعوة الأمن الفكري أو انعدام الإيمان بها والتعامل معها كوظيفة رتيبة، أو بكل بساطة؛ لأن المكان قد شغر بأصحاب أفكار وُضِعَت هذه اللجان للتحذير منهم، فانحرفوا بها عامدين عن مقصدها بالنشاط الفارغ وغير المجدي، أو استغلت للتحذير من أفكار أخرى وتحويلها لبعبع وإلهاء كي لا تملأ بنشاط يشير إليهم (كالليبرالية)، ووُجِدَت شخصيات تُحذر بحق من هذه الجماعات، لكنها باقية على خطاب علميٍّ رتيب ومكرر حول تحذيرات كلاسيكية من جماعة الإخوان، كأنّ درسٌ شرعي في عمق تخصص العقيدة، مهم، لكنه غير متفاعل مع وعي المرحلة، واهتمامات واستيعاب الجيل المستهدف بالتجنيد، ولا يُنبه على أساليب هذه الجماعات والمستجدة خطابًا وتقنية، من تجنيدهم عبر الألعاب، إلى غزو برامج التواصل كالتيك توك وتويتر بالتشغيب على كل قرار حكومي، وكل مشهد سياسي للدولة، وشيطنة شخصياتها أمام الجيل الفتي، وحتى استغلال أدوات التخصيص والتحييد في تطبيقات الدردشة لبث النهج السبئي في نفوس الناس.

ومن أعظم أسلحة التطرف الفكري إفراغ أنشطة الأمن الفكري من العناوين المؤثرة، ولو بسلاح المعاني الجميلة، فتضربُ معنى راقيًا مؤثرًا بمعنى راقٍ غير مؤثر ولا يليق بالمرحلة.

خذ ما تشاء من العناوين الجميلة: قيم الوسطية - الإيجابية في حياة الإنسان - معززات الانتماء.. إلخ، واملأ بها دورة سنوية كاملة من مثل هذه العناوين، تُلقيها شخصيات غالبًا ما تتحدث كثيرًا لكنها لا تقول شيئًا مؤثرًا ومعايشًا لواقعنا اليوم كي يقي به الشابَ من أقرب وسيلة تجنيد تصل إليه عبر الشبكة أو من خلال المحاضن التربوية.

وهكذا يُفرّغ هذا النشاط النبيل والمهم من ذخيرته الحية.

إن (إلزام) أنشطة الأمن الفكري ووحداتها بمتابعة من الجهات التابعة لها والمؤسسات الأمنية باستراتيجيات تمسّ مواطن الجرح، وبعناوين واضحة لمحاضراتها ودوراتها وأنشطتها، مع ذكر نماذج لها من الواقع السعودي وتاريخ التطرف في الخليج والعالم العربي ومآلات فكرها وقياداتها، وذكر مصطلحات محددة للتعريف بالجماعات المحلية والإقليمية، للتحذير منها والتنبيه على أساليبها وذكر شخصياتها وتاريخها، ومتابعة عمل هذه الأنشطة بهذه العناوين، هو الذي يقي بحق في رأيي المتواضع، بعد رحمة الله تعالى، من تجنيد شبابنا.

أيها أجدى نفعًا لعقول الجيل؟ العناوين والمواضيع الماضية، أم عناوين تسمي كل شيء باسمه: جماعة الإخوان، السرورية، القاعدة، داعش، سيد قطب، محمد قطب، حسن البنا، أسامة بن لادن، ما يطلق عليهم مسمى شيوخ الصحوة، إلخ، ويبين للشباب مواضع الخلل العظيم، والضلال الذي وقع فيه هؤلاء، من خلال وضع أهداف مستحيلة لا يمكن تحقيقها في ظل مجتمع دولي، ويبين نتاج جهودهم الشريرة في البلاد الإسلامية، ومستوى الدمار العظيم الذي خلفته هذه الجهود، والتبرعات التي تسربت من جماعاتهم وتم سرقتها شرقًا وغربًا، وتزلفهم لليسار الغربي، وممارستهم لكل ما كفروا به الحكام العرب، وارتماء القاعدة في أحضان إيران بإذن من أسامة بن لادن، وتعاون داعش مع من يزعمون تكفيرهم في بيع النفط واتفاقيات أخرى، وتعذيرهم لأنفسهم ولأردوغان ولمرسي وكل ما كانوا يشيطنون الحكام العرب بسببه، واستعراض فتاويهم في ذلك، واستغلالهم لفتاوى علمائنا (كابن باز وابن عثيمين والفوزان والألباني) لتجييش الناس ضد الدولة بما يصادم رأي هؤلاء العلماء أنفسهم ضد مثل هذا الأسلوب، ونتائج محاولتهم القيام بدور موازي لدولهم، والكوارث التي خلفها هذا الأمر، من دماء، وأشلاء، وركوبهم من كل دولة تعادي دولهم، وتوجيه فتاويهم نحو ما يحقق مصلحة الدول المعادية.. إلخ إلخ.

هذا هو الكلام (أو ماهو في مستواه) الذي أعتقد أهمية أن يقال في المدارس، والجامعات، وتعرض بالدلائل المصورة، وبتشجير ينفض الملل، بدلًا من تلك العناوين الكئيبة التي تجعل الجيل يغفو في موضع كان يجب أن يكون فيه أوعى ما يكون، ويجب أن يكون فيه الكلام كأوضح ما يكون، حتى يستوعب الطالب والمواطن الفتيّ متى تحلّ عليه لحظة التجنيد إذا حصلت، تمامًا كما يستوعب الطالب (بسبب وجود حملات وتوجيهات صارمة وواضحة عن ذلك منذ سنوات الروضة) متى يجد نفسه أمام لحظة تحرش جنسي، فيحذر ويهرب ويُخبر أهله وإدارة مدرسته، فإذا وجد معلم يحاول دسّ السبئيّة في عقول طلابنا كانوا له متنبهين، ومنه حذرين، ومثل هذا الوعي المتراكم كل سنة، سيجعل أي معلم أو شخص يحاول تجنيد أبنائنا يفكر ألف مرة، تمامًا كما يفكر من يستهدفهم من مجرمي الجنايات والأخلاق، فيحسّ أحدهم أن كل العالم ينظر إليه بمجرد التفكير والتخطيط، فيقلق مجرم الفكر كما يقلق مجرم الجنايات، وهذا أقلّ إنجاز يمكن تحقيقه.

ولا يكون هذا -حسب رأيي المتواضع- إلا بالإشراف من الأعلى على وضع المنهج والعناوين والعناوين الفرعية لكل محاضرات ودورات الأمن الفكري.. وغيرها، في المدارس والجامعات.

كما أن هذا الإلزام يُحصّن لجان ووحدات الأمن الفكري من دخول المشبوهين والمؤدلجين بأفكار الأحزاب، لأنهم لن يقبلوا أن ينشطوا تحت هذه العناوين بأي حال من الأحوال؛ كونهم ينفرون فكريًا ونفسيًا من البيئات التي تشير إليهم بوضوح، ومن قَبِل منهم ليجرّبَ البيئة وإمكانية تغييرها من الداخل سيجد نفسه -بالمتابعة المستمرة من الجهات المسؤولة- قابضًا على الجمر إلى أن ينسحب، كما حصل في التجربة الناجحة -بتوفيق الله تعالى- في خُطَب الجمعة بعد بيان هيئة كبار العلماء عن جماعة الإخوان الإرهابية، حين جاء التوجيه من وزارة الأوقاف بالتحذير الواضح والصريح من جماعة الإخوان، وحقق هذا التوجيه الصارم فائدتين: فهو تحذير صريح للناس، كما أنه كان أداة لتطهير المنابر ممن لم يلتزم بذلك أو تحايل عليه أو حاول التغيّب في ذلك الأسبوع فتم إلزامه الأسبوع التالي حتى يلتزم أو يطوى قيده، فكفى الله المجتمعات شر الكثير ممن يعتبر تلك الجماعات بابًا من أبواب العقيدة ينفر من التحذير منها ديانةً لله!.

وهذا النوع من الإلزام والمتابعة سيحمي هذا القرار العظيم في بذرته الأولى، وكي لا تتحول وسيلة الوقاية إلى وسيلة تجنيد أو تحييد لسلاح مهم من أسلحة دولتنا المباركة، كما أن توسعه ليشمل كل المؤسسات الدعوية والفكرية سيكون ضربة عميقة في قلب تلك الجماعات الضالة، ويعيد مؤسسات الدولة وأنشطتها إلى شعب الإيمان، والباقيات الصالحات، وفرائض الإسلام لتكون هي المقصد والغاية، لا وسيلة لتحقيق غايات سفهاء الأحلام.
3 تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

  1. إبراهيم الشمري27 أبريل 2021 في 7:14 م

    اقسم الله العظيم انك ما عديت الصحيح يا استاذ راكان
    اخوي الله يرحمه موديني للحلقات يبي يبعدني عن اهل الشر
    لقيت نفسي بعد فتره اقرا عن تعذيب الاخوان في سجون عبدالناصر واعدام سيد قطب وكتب دخلتنا اجواء صرفتنا عن القران اللي جينا نحفظه وما استوعبنا ايش الوضع حتي كبرنا وبدت الامور تتضح
    وآخرتها لا حفظنا القران ولا بايعنا مرشد
    واكتشفنا انهم مخلينا مخزون ينفجر وقت الحاجه.
    حسبنا الله ونعم والوكيل وبس

    ردحذف
  2. د. عبدالله، أبو فيصل31 مايو 2021 في 10:47 ص

    ما شاء الله، هكذا تسرد الأفكار وإلا فلا.
    موضوع في غاية الأهمية، ولفت نظري عباراتك الدقيقة الجامعة لجوانب مهمة واستدراكات ضرورية.
    وأبشرك أن دولتنا متنبهة تمامًا لهذه النقطة، والقادم أجمل لي ولأمثالك من الشباب الواعي ولأبنائنا وللمجتمع عامة، وأسوأ على هؤلاء الإرهابيين والمتطرفين.
    نتابعك باستمتاع، ونحيي فيك هذه الروح الوطنية، والنباهة، والوعي، وياليت في كل مدينة سعودية هذا الوعي يابن الشمال، حفظك الله وحماك.

    ردحذف
  3. مرة جئنا بشيخ للمدرسة ليتكلم عن خطر التطرف والجماعات الإرهابية وذهبت نصف المحاضرة عن الصلاة والنوافل
    وبعد مقالك هذا تذكرته وصرت أشك في أمره بعد أن كنت أحسن الظن بكونه لم يحضّر للموضوع

    ردحذف

إعلان أسفل المقال