جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


حين اقتربت ولاية ترامب من نهايتها رأينا الإيرانيين وأذنابهم كما لن نراهم منذ نفخهم الخميني قبل ٤٠ سنة، كانوا في رعبٍ وشدّة لا يتمناها لهم العدو، ويبدو أن انكسارهم، ورؤية عموم أتباعهم لنحيب كبار رجال ولاية الفقيه أمام جثمان سليماني والمهندس غيّر في نفوسهم ومزاجهم الكثير، لذلك رأينا تحذيراتهم لميليشياتهم في العراق بعدم القيام بما يستفز ترامب ويمنحه فرصةً لتفجير الأوضاع ضدهم، وكان هناك ترحيب ساخر في الداخل الشيعي/الولائي بهذه المرونة، وكانت تعليقاتهم تدور حول: فكونا من هذا المجنون، لا تقوموا بمسّ ذيل الوحش الغبي.. إلخ.

وحين رأينا رجال الصف الأول في جماعة الإخوان المبتدعة والعدوة لنا عقيدة وسياسة وشعبًا وقيادة يتزلفون لرجال البرلمان البريطاني بتقديم تنازلات في ملفات أخلاقية وسياسية، تابعنا وقتها الجدل الدائر بين شباب هذا الحزب المنتمين له بحق أو مراكيبهم من غوغاء العرب، وكان المشهد كالتالي: نحن الشباب المتعاطفون الواعون نقول لكم أيها الشباب المتعاطفون الأقل ذكاء ووعيًا، أن هذه تنازلات (ظاهرية) يقوم بها أسيادنا في الحزب، لأجل مكتسبات سياسية ضرورية، وإلا فلا نستطيع أن نلعب ونواجه في هذا الميدان.

وهكذا حينما ظهر لنا محمد العوضي وسلمان العودة قبله والغنوشي قبلهما وكان أكثر صراحة، ليخففوا وطأة بعض المسائل الأخلاقية من خلال ذكرها في سياق هادئ يجمع بين التزلف للغرب وعدم إثارة الناس ضدهم، كانت الحجج ذاتها هي سبب الصمت عنهم، أو التشنيع (اللطيف!) عليهم دون إسقاطهم، خصوصًا الغنوشي الذي نص على كلام واضح وصريح يقنن هذه الأمور السلوكية، ويرى أن لأهلها حقوقًا، وأنه يجب إيقاف تهميشهم، والاعتراف بما يقومون به، أي أن الغنوشي كان يفترض أن يكون حسب فكر هؤلاء ساقطًا تمامًا، ولكنه لا زال مزكى من قبلهم.

وقد سبقهم أردوغان الذي كان يتم الدفاع عنه في إطلاقه لسراح القس، وتقديم المساعدات لإسرائيل، وتدمير أكثر من ٢٠٠ ألف من شعبه بحجّة الانقلاب، وتعذيبه لبعض المعتقلين الذين اتهموا بالتجسس للإمارات، واستهداف المملكة بالسعي لإضرار اقتصادها في المجتمع الدولي بحجة مقتل خاشقجي، بما لم يصنع مثله وبحجمه مع بشار الأسد، وكانت الحجة جاهزة من مخصيي العرب من أتباعه: «هكذا هي السياسة، وهذه ألاعيبها، وافعل ما تشاء يا خليفتنا».

*          *          *

أطلقت دولتنا سراح إحدى الفتيات بعد أن قضت حكمها، وظهر بايدن الذي لا شك أنه يعرف (كاسرائيل وتركيا وإيران) العقلية العربية التي تتفاعل بسطحية مع مثل هذه التصريحات وتطلق عشرات الأحكام دفعة واحدة بناء عليها، وهنأ بخروج هذه الفتاة وكأنه الآمر الناهي في هذه المسألة، وخرج أتباع كل الشخصيات التي ذكرتها أعلاه يشمتون ويرددون بعض الكليشات المتكررة: بايدن أخرجها بالغصب، السعودية خضعت.. إلخ هذه الجمل التي مرت عليكم بلا شك.

ومع أن الموقف الواضح أمام الجميع أن الحكم نُطِقَ به قبل أن تحسم الانتخابات الأمريكية في مصادقة الكونجرس في ٦ يناير، كما أن هناك الكثير ممن هم أهم بالنسبة للديموقراطيين حسب ما يفترض من هذه البنت ولا يزالون يقضون أحكامهم، أو في طور المحاكمات، إلا أنني سأتنزل مع سيناريو: «السعودية تعرضت لضغوط أمريكية، فلذلك كان من نتائج هذه الضغوط الشديدة إطلاق هذه الفتاة».

وبناء على هذا التنزل أقول: أمريكا دولة قوية وحليف معقد كما هو معروف، هي كما يقال عندنا في الخليج (خبل متعافي)، وأنا مع دولتي في الأخذ والرد واللعب في مثل هذه الهوامش وبعامل الوقت بقدر ما تشاء تحت أي مصلحة وضرورة تراها مع هذه الدولة ومع غيرها من الدول، ولها منا كل الدعوات والدعم والدفاع والتفهّم.. إلخ.

لقد قامت دولتنا بمثل هذه الأمور قبل ذلك، وتعددت التفسيرات حينها كما اليوم، ومرّت ٨ سنوات من عهد أوباما ونائبه بايدن بردًا وسلامًا عمومًا، وكان الجيش المصري  وحلفاؤه مرنين مع عاصفة ٢٠١١م، بل وسمح الجيش بوصول أعداء الأوطان لزعامة الوطن المصري وصبروا على غوغائيتهم وهمجيتهم، ثم فركنا مع مصر والإمارات أنوف المغرضين والمغتاظين والثورجية والثرثارين تراب أوطانهم التي خانوها بخبثهم ودروشتهم وعمالتهم، فأودينا بمشاريعهم وهم لم يجدوا إلا أن يوسعونا سبًا، وكان عاقبة المرونة مع عواصف المرحلة، الصلابة والمزيد من المكاسب فيما بعد.

لقد عادت مصر والجيش المصري من تلك المرونة أقوى، وأكثر تحصينًا ونباهةً ووعيًا.

لذلك أثق كمواطن سعودي بخطوات مؤسسات دولتي وقيادتها في عالم السياسة وألاعيبه، ولو أدى ذلك لإطلاق سراح كل المعتقلين أو أي مما يسميه الأعداء (خضوعًا) أو (تنازلًا) ما دام هذا قرار قيادة الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، ولا تعنيني كل ثرثرات الاحتفالات.

على هؤلاء أن يعرفوا أننا لن نبدل ثقتنا بمؤسسات هذه الدولة بمحلليهم السخيفين، واجتهاداتهم السياسية التي رأينا بركاتها في سوريا وليبيا واليمن وأفغانستان، كيف يمكن لسعودي، يملك عقله ووعيه، أن يستبدل عراقةً سياسية قادته بأمان من بين الفتن، بأحزاب كانت السمة العامة لكل أجيالها منذ جيلها الأول وحتى يومنا هذا هو الفشل والخيانة والنهايات الساخرة كل مرة، والغوغائية والارتماء في أحضان الفارسي والتركي والأمريكي والبريطاني.. إلخ.

وأشد كمواطن سعودي، وشاب عربي (يفتخر بعروبته أشد مما يفتخر التركي والفارسي بقوميتهم خلف قناع الإسلام) على يد دولتي ودولة مصر والإمارات والبحرين والجيش الوطني في ليبيا، والسودان الجديدة الجميلة بممارسة حقوقها الطبيعية في المرونة السياسية لضمان بقاء الخطوط العريضة للسياسة والاقتصاد بالإضافة إلى كونها غصة في حلوق فلول ٢٠١١م.

إنني أعرف حزبًا مارَسَ كل ما كفّر بسببه الحكام العرب لأجل الوصول للكرسي، من التقرب لاسرائيل، للانغماس في المشروع الإيراني، للاعتراف ببعض السلوكيات تحت قبة البرلمان البريطاني، لقرع أبواب الكونجرس الأمريكي، لتمجيد أمريكا بايدن بعد زمانٍ مضى كانوا يقولون فيه عن العرب (عملاء أمريكا)… إلخ إلخ مما يعرفه الجميع.

أثق بعد رحمة الله وفضله بأجهزة دولتي وقرارتها، وكل ردة الفعل الشامتة والفرحة وصانعة السيناريوهات المخلوطة بالأماني، قد مر على السعودية وحلفائها مثلها بل وأشد منها في ٢٠١١ و(ثورة حنين).. وغيرها، وكانت حكوماتنا -إذا استذكرت تلك الأيام جيدًا- في غاية من المرونة وطول النفس مع عاصفة ذلك العام والذي بعده.. إلخ، وفي النهاية تم إنقاذ مصر، وتطشير الخونة في شتات الأرض، ولم يهنؤوا بليبيا، وسقط بشيرهم في السودان، ولم يستقر لهم قرار في اليمن، وتم صرفهم لمعارك جانبية متتالية لا تفتر ولا تتوقف أثناء المقاطعة، وصار هدفهم مجرد التشغيب على السعودية وحلفائها في مقطع فيديو وكاريكاتير ووثائقي يتابعه بضعة آلاف وينسونه بعد أن كانوا يتحدثون ويخططون لعرش مصر وكرسي القذافي ومشروعهم في اليمن ويصنعون بوهمهم جمعات الغضب.. إلخ، فتحولوا من خانة الهجوم على عظائم الأمور، إلى الخوض الفارغ مع ما يسمونها جيوشا إلكترونية، والتي جعلتهم يهبطون إلى المكايدة الشخصية اليومية على تفاصيل غير مؤثرة بكل نجاح وإنجاز وطني، ومرونتنا مع إيران لم تدع الفرصة لقاسم سليماني ليقرأ الورقة التي بيده، وقطفنا رأس الصماد، وقضينا على تنظيم نمر النمر، وهدمنا أماكن الفتن التي كان يراد لها أن تكون حزب الله السعودية.

وقد خيبنا مشاريع خيمة القذافي لتفتيت الجزيرة العربية وتجويع أهلها كما نص على ذلك من اجتمع معه، وشارك في هذه الجريمة وزير خارجية عمان، والزنديق الخائن حاكم المطيري وشلة إخوان الكويت، وغيرهم ممن اجتمعوا في خيمة التآمر والكفر.

وقد نجح هذا فيما بعد حينما كنا مرنين مع مسألة خاشقجي، وقد مشينا مع هذه المسألة «سيدا»، فاحتار عدونا فينا، وصارت الآن ماض بعيد يحاولون النفخ فيها أو صنع شبيه لها بلا جدوى.

طول النفس، والمرونة، والتأخر خطوات؛ للتقدم أضعافها فيما بعد، أو للحفاظ على المكتسبات.. إلخ هذه المعاني، معروفة كمزايا في كل شؤون الحياة: الاقتصاد، العلاقات، إدارة الشركات، التربية، بل وحتى في خطط كرة القدم، وهي كذلك أوضح في التاريخ السياسي للدول، لذلك هي ميزة للدول، وانظروا لحال من افتقد هذه المرونة ماذا جرى له ولدولته ولشعبها، كصدام حسين، الذي أوضحت مقاطع اجتماعاته المسربة أنه كان كاسمه صداميًا، يُستفَزّ سريعًا، ونَفَسُه قصير، فكان عاقبة أمره خسرا، وليت هذه الخسارة جاءت سريعًا، بل أخذت عقدين من الهبوط بالعراق حتى آل إلى ما آل إليه.

مرونة دولتنا في استقدام القوات الأمريكية عام ١٩٩٠م حمت مكتسبات كبرى لهذه البلاد، وذهبت كل دعايات المغفلين، الذين يهذون بما لا يدركونه من أمور، ويفتون فيما لا تستطيع عقولهم الهزيلة استيعابه لنقص المعلومات والتصورات، ومرونتها بعد أحداث سبتمبر حمتنا من مخطط التقسيم، ومرونتها مع الاستفزازات الإيرانية التي لم تتوقف أبعد المنطقة عن كوارث كانت ولا زال يراد لها أن تحصل لنرى أكفر دول الأرض من نصارى وصفويين وبوذية ومتطرفي الشيعة والصوفية يجولون ويصولون في صحراء الدهناء ونجد والحجاز.. وكل مدن المملكة ومناطقها، يفشّون غلّهم التاريخي في نساء الجزيرة ورجالها كلما طرأ عليهم غيظهم القديم.

هكذا هي السياسة، لو لم نلعب بهذا الأوراق لجاء لاعبٌ آخر بوجهٍ مهادنٍ للقوى الكبرى، فإذا وصل للحكم تمسكن بهذه المرونة، حتى يتمكن، فإذا تمكن رأينا وجهًا آخر، وقارن أردوغان ما قبل ٢٠١١ بأردوغان بعدها، والمعارضة العراقية في التسعينات، ووجهها السياسي بعد ٢٠٠٣، وقارن بين الشعارات الغربية وبين ما صنعته فرنسا في ثورة السترات الصفراء، وما فعلته أسبانيا في محاولة الاستفتاء، وما فعلته أمريكا مع اليمين، ومع مظاهرات احتلوا وول ستريت، نحن في غابة، ولن تغرنا كل هذه البكائيات، وسنحمي بلدنا قيادة وشعبًا بأي شيء ممكن في عالم السياسة، ونحن مع دولتنا في كل خطوة لحماية بلدنا.

لذلك، على فرض أن ما يحتفي به هؤلاء الغوغاء صحيحًا، فنحن نحمد الله تعالى على قيادة ومؤسسات تمارس السياسة كما يجب، ونحن معها ١٠٠٪ وليس ٩٩٪ ولا أقل من ذلك، فإنها بذلك نجت -بفضل الله تعالى- بنا من فتن متتابعة منذ عقود لو أنها حصلت بهذا التتابع والتآمر في إقليم آخر لانهارت دوله تمامًا، ولم تقم لها قائمة، وهذه المرونة تضمن كذلك أن هؤلاء الشامتين والساخرين لن تمتد لهم يد لدولتنا المتماسكة بفضل الله ثم بممارسة الممكن في السياسة، وعلى هذا سيبقون في دائرة الشتائم وإيساعنا بالسب.. وهذا يعني أننا على ما يرام.

لذلك لا يغركم تعليقات غوغاء العرب، وأصحاب القضية الصنم، وزنادقة الإخوان، وإظهارهم للشماتة، فالأمر في الحقيقة يغيظهم كثيرًا، لذلك كثيرًا ما أبتسم حين أرى المؤتمر الأسبوعي للمتحدث باسم التحالف وإعلان سير هذه الحرب حسب القوانين الدولية، إن هذا اللعب يجعلني فخورًا بهذه الدولة وبالعقلية السياسية التي تديرها، لا تدرون كم يتمنون كل الأماني أن يكون قادتنا كصدام حسين أو القذافي في المصادمة وسرعة الاستفزاز والثرثرة، فإن هذا يوصلهم إلى دمائنا وأعراضنا وثرواتنا بسرعة، لكننا أمام مدرسة سياسية عريقة، وهذا ما عقدهم وزاد غيظهم غيظًا، فنحن بالنسبة لهم معادلة شديدة الصعوبة، يقضي الأعداء وقتهم لمحاولة حلها بينما ننهض وندافع ونتحالف ونرتقي بأمتنا السعودية والعربية، وإذا وجدوا حلّه، فليبلوه ويشربوا ماءه.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال