جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

الطالب،مصطفى
   تسلك بسيارتك (الفورد) طريقك في سرعة معتدلة، في أمان الله، وفي أمان من الناس، فتتفاجأ بسيارةٍ تظهر من العدم، ينعطف صاحبها بها نحوك عن سبقٍ وإصرارٍ حتى يكاد يصطدم بجانب سيارتك التي تهتزّ من اضطراب الهواء بسبب قربه وسرعته، وحين تستوعب ما يجري وتفيق، تراه أمامك يضيء إشارات التوجيه يمنة ويسرة، في رموز تفهم منها أنه يقول لك متحديًا (تمكنت منك، فمت بغيظك!) ليركب الشيطان معك، ومعه عائلته وأصحابه وقبيلته، ويشيرون بحماس نحوه لتلحقه.. فتغفل عن التعوّذ، وتطيعهم، وحين يضطرّ للوقوف عند أقرب إشارة مزدحمة، تنتهزها فرصةً كي تقترب منه حتى تصير جواره ثم ترغمه على الاستجابة لزجرك واستفهاماتك اللجوجة، فيجيبك كاسد العقل وقد جمع بلادة الدنيا في نبرة صوته: (أنتم يا أصحاب الفوردات ما تشوفون أحد!!).

   فتنسى الموقف، وتغفل عن الرجل؛ لتضحك طويلًا، فتغادر الشياطين مركبتك مغتاظة متأففة، ويضطر الرجل للافتراق عنك بسبب منبهات الإشارة الخضراء، وعيناه تلاحقانك بنظراتهما المدهوشة من هذا الضحك المستفز، وقد اغتاظ فيما يبدو، وركبت تلك الشياطين معه.. تشير إليك هذه المرّة!.

   بعض الإجابات تحمل سيرة صاحبها، وتعتاض بها عن الأسفار، لأنها تختصر لك الإسفار عن أخلاقه.

   يتداول الناس نكتًا وطرائفًا حديثة الظهور عن قائدي سيارات (الفورد)، وهي طريفة بلا شك، وتدفعك للضحك دائمًا، لكنّها لا تقع في بعض النفوس هذا الموقف المعتدل.. العاقل، وهو الضحك، والاستمرار في الحياة.

   بعض السفهاء يحمل نفثات المجتمع المضحكة والتي تصل إليه كطُرفة شعبية.. محمل الجد، فيتأثر بها أشدّ ما يكون التأثير، فتغيّر في طباعه وقراراته وتعامله، فمجاله الفارغ تملؤه التفاهات بسهولة.

   وبصفتي قائدًا لسيارة الـ "فورد" بدأت أحسّ بعنصرية وعداء يبدوان من بعض الحمقى والمغفلين الذين تساقطت أوراقهم من صفحات ابن الجوزي، فأجد نفسي في سباق وتحديات لم أختر الاشتراك فيها، وأتعرض لنظرات لم أعهدها قبل انتشار هذه الطرائف، ربما يبالغ القلم هنا، لكن المبالغة تكثير انفعالي لما استجدّ في الواقع بحق.

   إن النكتة والسخرية كافيتان عند بعض العقول لإعطاء أحكام عامة، وتصّور وجود مجموعات وتكتلات، فيمتلئ مجال هؤلاء بتصورات وآراء تصنع ردود فعلٍ معينة، لا تبشّر بالخير غالبًا، فحين كنتَ تضحك أيها العاقل من طرائف (أصحاب الفوردات) كان البعض تحمرّ عينه ويخلق في مخيلته وجودًا واقعيًا لهم يصح أن يقال فيه لواحدٍ منهم: (أنتم-أولئك-هؤلاء-أصحاب) فينسبه إلى ما/من يستحق الكراهية والحقد والإيقاف عند الحد، وحين كان يتوقف تأثير النكتة عندك على آخر أنفاس الضحك، كانت تدور في نفوسهم زوابع ستهب أعاصيرها حال ملاقاتهم من يستحق لعبة العداء، وهم هنا (أصحاب الفوردات) الذين (ما يشوفون أحد)، أي أنهم مغرورون متكبرون لا يرون الخلق لفرط احتقارهم لهم، فانظر يا رعاك الله كيف تنتقل الصفات أيضًا عبر تلك الطرائف.

   يتكرر هذا الأمر في تفاعل أمثال هؤلاء مع النكت التي تسخر من الزواج والطالب المتفوق والمجتهد وعاشق الكتب، طالب العلم والثقافة، والبدوي.. وأخلاق المجتمع، والمشاهير، وغير ذلك كثير، دائمًا ما تجد في استقبال الناس لهذه التعليقات فئة تنطلي عليها هذه السخرية بنجاحٍ عجيب، وتؤثّر فيهم سريعًا، فلا تستغرب -مثلًا- ممن يتأثر قراره في الزواج، لدوافعٍ سبّب تخلّقها في دواخله أمورٌ منها هذه السخرية التي سرعان ما تتأثر بها هذه العقول فتصدّق وتدهش وتشمئز ثم تبني على ذلك كله، فالزواج في تلك الطرائف مقزز ورتيب، خال من الحب، يحوّلك وزوجتك وأنتما في عزّ الشباب إلى مسنّين مملين يكرهان الحياة ولا يبصران الجمال، كما أنّ الزوجة لا تفهم الرومنسية، ولو حاولت أن ترتديها فشلت وصارت محاولتها باعثة على الشفقة والسخرية، والطالب المجتهد بغيضٌ ثقيلٌ يسبح ضد تيار الحيوية والانتعاش.

   وقد هالني حين قرأت تعليقات في إحدى مواقع التواصل، يتمنى فيها أصحابها الهلاك والأذى لأحد المشاهير بعد أن تعرّض لحادثة مجاهرة، مع أنه لم يبدر منه، حتى في زلاته وسخرياته، ما يستحق ما هو أدنى من محاولة الفتك به وبأهله.

   إن العاقل حين يقرأ عبارة (لا تجعلوا من الحمقى مشاهير) يميّز الأحمق أولًا ثمّ يلتزم بالحق الوارد في العبارة بالتي هي أحسن، وبالتجاهل، أما السفيه فيقرأ العبارة ثم يظنّ أنها تعني أن كلّ المشاهير حمقى، وأن عدم جعلهم مشاهير يعني ذلك التجاوز ضدهم إلى درجة الجناية والظلم.

   هذه العقول (التي تنجح تلك الطرائف في تغيير نفوس أصحابها والتأثير في آرائهم.. دائمًا!) هي التي يراهن مالكو أدوات التغيير الإعلامي في التحكم بها وتوجيهها بناء على مجهود قليل التكاليف كثير التأثير كمجرد عنوان رئيسي في صحيفة إلكترونية، أو كاريكاتير، أو "هاشتاق" أو حلقة تلفزيونية كوميدية، أو وثائقي يستغل شعار الجهاد، وإذا كان كافيًا أن يُملأ مجال هؤلاء بالحقد على (أصحاب الفوردات) لمجرد نكتة متداولة حديثًا، فما بالك بما هو أشدّ جاذبية وأكثر حيوية وأدقّ توجيها؟!

   حتى البرامج اليوتيوبية لم تعد تجتهد كما تصنع القنوات في أساليب الدعاية، كان كافيًا لهم أثناء حديثهم لك أن يخرجوا علبة المنتج أمامهم، مع افتعال ملامح وابتسامات تقول لك: نعم، أنا أصنعها دعاية مباشرة، وأنت تعلم بأنها تخاطب وعيك ولا وعيك وبصرك وكل حاسة منتبهة لديك، كما يعلم المشاهد عن حيل لاعب الخفّة أمامه، فكيف ولاعب الخفة يخبرك بأسرار ما يقوم به بكل وقاحة، ومع كل هذا العلم فإنني أتوقع أنك ستتأثر بها، وستشتريها، وسأستلم أموالي.

   إنها الفئة المضمونة للتأثير والاستهلاك والتخويف والتحريك، الألعوبة المكوّرة التي يركلها السياسي والتاجر والفنان.. ورئيس النادي.

   على أيّة حال، سأستغل ختام مقالي لأوجّه تحذيرًا جادًا للرفقاء من (أصحاب الفوردات) بأن يتنبهوا، فقد كثر السفهاء، والانفعالات السيئة تنتقل بينهم بسرعة انتقال العدوى، وصار الناس يؤتونهم أموالهم، وطرائفهم.. ومفاتيح سياراتهم!

مقال متصل:
[ أرسطو الدرباوي ! ]


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال