جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة




   للقناعة ملامح تشكلها التجارب الفاشلة وانكشاف أثر المبالغات والأماني، ولا يتبين وجود هذه الملامح إلا إنسان تلقى صفعة ما من حقيقة ما، أو إنسان قرر أن يكون صادقًا مع نفسه، فيتأمل الواقع ويصفه كما هو.

   تخلّق الإنسان بالقناعة والرضا يستعجل بقدوم النفع وظهور الأثر.

   في الحياة، غالبًا ما تكون أدوات التأثير -إذا تأملتها من بعيد- دوائر ضيقة لا ترضي الطموح المنطلق.

   أدخل مواقع التواصل الاجتماعي يوميًا تقريبًا منذ بداياتها العربية، في مواقع التواصل تبدو السيرة الذاتية التي يُريد الناس كتابتها عن أنفسهم أوضح مما كانت عليه في المنتديات والمدوّنات، بين يديك مئات النماذج تحمل همًا وطموحًا.. وتبذل له، وحجم المؤثرين مذهل، وصادم دائمًا، وهو نموذج واضح لخريطة التأثير في الواقع وإن اختلف الأشخاص.

   عبر التاريخ وإلى يومنا هذا كان قَدَر التأثير العظيم يتاح لأعداد قليلة من البشر، الكثير يتنافسون.. والقلة يصلون لتلك المنزلة، لأنّه لا مكان إلا لقلّة، قل إنه حظ، وقل إنها الظروف المواتية، وقل إنه الجهد والبذل، لكن لتعلم أن كثيرًا من المحظوظين، وأصحاب الظروف المفترشة باليسر، وأهل الجهد لم يصلوا، ورحل الكثير منهم وهم لم يصلوا، ولك أن تردد بعدها: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ففيها من الشفاء والوضوح والإشارة للخطوة التالية بدل ندب الحظ واستفهام المعترضين على الأقدار.

   إذن.. ما الخطوة التالية؟

   الإدراك:

ذهب مجموعة من الفقراء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا يشتكون: (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم) ثم جاء موضع الشكوى والفارق بينهم في الفضل فقالوا: (ويتصدقون بفضول أموالهم) فواساهم النبي عليه السلام بأن دلّهم على فضل التسبيح والتحميد والتكبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غير أنّ الأغنياء ما لبثوا أن عملوا بما واسى به النبي عليه الصلاة والسلام الفقراء، فروي أن الفقراء عادوا مرّة أخرى يشتكون، وكان رده عليه الصلاة والسلام بأن قال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

   وكم من أهل الدثور من أملاك الدنيا؟ فهناك صاحب الدَّثْر من الشهرة، وصاحب الدّثر من السلطة، وصاحب الدثر من التأثير، وتلك أفضال الله يؤتيها من يشاء وحده لا شريك له.

   إن أهل التجارب الطبية والنفسية لا يجربون على كل البشر أو الحيوانات المقرّبة، وإنما على نماذج محدودة (غير فردية) تؤهل التجربة عليها لإصدار أحكام عامة على الجميع، وكذا الأمر في تجارب الإنسان الشخصية والتجارب التي كان شاهدًا عليها أو كان مطلعًا على تفاصيلها بالقراءة ونحوها، التجارب التي يمتلك الإنسان نتائجها هي استبيانات حياته التي يبني عليها قراراته لحاضره.

   والتجربة أثبتت أن هناك، في هذه الحياة، القليل، القليل جدًا مما يليق بطموحات الناس أو بجهودهم، صحيحٌ أنّ لكل مجتهد نصيب، لكن من قال أنّ هذا النصيب العاجل سيكون على قدر هذا الاجتهاد؟

*       *       *

   هنالك العديد من القناعات التي تتشكل بناء على ما سبق، تبدأ من بعض العبارات الكلاسيكية من مثل (كن سعيدًا بما لديك) إلى أوامر يقل الانتباه إليها مع عظم أهميتها من مثل (اعرف حدود تأثيرك) أو (حاسب نفسك).

   فبناء على التجربة، سيعلم الإنسان قَدْره، ويلمح أقداره، وإذن، فمزيد من التجارب بعد هذا العلم وتلك اللمحة.. مضيعة للوقت، فالمعركة بدأت وأنت لا زلت تبحث عن أحدّ السيوف وألمعها وأجملها وأكملها.

   القناعة مساحات عظيمة متاحة لك قد يعميك عنها الطموح والأماني والبحث عن مساحات لن تصل إليها، وتجعلك تزهد بما لديك من الممكن الموجود، مادًّا عينيك إلى الممكن بعيد المنال، أو إلى المستحيل وخيالاته التي لا تحد.

   سيدفعك إدراك هذه المساحات المتاحة إلى أمور في غاية الأهمية، وهي البداية الفعلية للخطوات التالية.

   . الالتفات إلى النفس:

   الإنسان لَبِنة في قاعدة، فساد هذه اللبنة يضعف الأساس، فيصدع البناء، لعلّ هذه الفكرة تبدو (مستهلكة) توجيهًا ودعويًا، لكنها حقيقة لن يعرف الواحد مقدار عظمتها وخطورتها حتى يتأملها عميقًا وبصدق، فلو علم الإنسان مقدار تأثيره ما استهان بمساحته الشخصية، فالكثرة قلّة متراصة، والقلّة أفراد مجتمعون، متى ما أدرك الإنسان أنّ تأثير شخصه وتأثيره على القلة التي حوله هو تأثيرٌ على الكثرة.. وإن احتقر الأمر، فهو في عمق الخطوة التالية.

   رُوِي في أثرٍ يتيم، من الروايات التي إذا قرأتها فررت من هامشها خوفا من فتك المحققين بها ولو كان هذا الفتك حقا، أقول: روي أنه لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى عليه السلام فاجتمع الناس إليه وطلبوا أن يستسقي لهم فلما فعل قال الله له: (فيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم فبه منعتكم) ... فقام موسى عليه السلام منادياً وقال: (يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة! اخرج من بين أظهرنا فبك منعنا المطر) فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحداً خرج فعلم أنه المطلوب فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل وإن قعدت معهم منعوا لأجلي. فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله وقال: (إلهي وسيدي! عصيتك أربعين سنة وأمهلتني وقد أتيتك طائعاً فاقبلني) فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب فقال موسى: (إلهي وسيدي! بماذا سقيتنا وما خرج من بين أظهرنا أحد؟) فقال: (يا موسى! سقيتكم بالذي به منعتكم) فقال موسى: (إلهي! أرني هذا العبد الطائع) فقال: (يا موسى! إني لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني؟!).

   نكتب ونشارك كتاباتنا منذ المنتديات فالمدونات فمواقع التواصل المتنوعة نملأ الدنيا احتجاجًا على حال هذه الأمة، بهذا الاستحضار الشمولي لها، من حفر الشوارع إلى أنباء المَصَارع، ومن قروض البنوك إلى الأراضي و(الشبوك)، بلا كلل وملل، وكل عام نختطف إلى هذه المعمعة حصيلة لا بأس بها من الأجيال الصاعدة، نسقيهم من همومنا، ونعرّفهم على خلافاتنا.. ولنقل بعد هذا الاستعراض (لا بأس) لكن هناك ما هو أهم بكثير من ذلك مهما أغرى هذا الـ (ذلك) بأضوائه وازدحام الناس حوله، وهو قضية صلاح النفس ودوره المحوري في رفع التخلف عن محيط الإنسان.. ودور هذا المحيط في رفع التخلف عن الدوائر المحيطة.. ودور هذه الدوائر في رفع التخلف عن الأمة بأجمعها، وإني على يقين أن البعض سيصل إلى هذه الفقرة ليقول في نفسه: (آه.. إنه التوجيه المكرر نفسه: أصلح نفسك تدور عجلة المجتمع، ويتجاهل صاحب هذا التوجيه أن تأثير صلاحك وصلاح قلّتك وما وراء هذه القلة مهما اتسع لن يصل لدوائر مغلقة تدير بحق عجلة المجتمع بقراراتها وسلطتها وقدرتها.. إلخ).

   حَسَنٌ!.. إنه هو بعينه، فما رأيك أن نتأمل أثره هذه المرة بعمق وصدق؟ إنّ للتخلف والانحطاط أسبابًا كثيرة بلا شك، ومن يظنّ أن تركيزي على سبب النفس يعني تبرئة المسؤولين عن الأسباب الأخرى.. فهو مخطئ، ولن يمنعني سوء فهم البعض هذا من إزاحة بقية الأسباب لنتأمل ما يتعلق بالنفس التي بين جنبينا، هذا السبب بعينه.. الأمر المكرر نفسه.. الذي تسأم منه النفوس ذاتها التي سنتأملها فيما يلي.

   بداية، عندما نقول أن فساد النفس من أسباب التخلف فعلينا أولًا أن نستحضر مشاهدًا من هذا التخلف المرير: طلقة في رأس طفلٍ سوري، دكتور بشهادة مزورة في مستوصف طبي، فاسدٌ يسرق من أموال الأمّة، سلوكيات بغيضة تستولي على عقول شبابنا، عالمٌ يتحرّى الدنيا بعلمه، قضيّة إسكانٍ لم تحل، حسنًا، سأختصر لك الأمر، إن كل إنسان منا لديه ما يستفزه من مشاهد التخلف، فما أتبلد أمامه من مظاهرها قد يكون يحرقك من الداخل، وما لم تحفل به قد أكون مغتاظًا يومي كله بسببه، فلينتق كل واحد منا ما يستفزه من شأن أمته وبلدته وحيّه وبيئته.

   (سأحلها من جهتي.. على الأقل!)

   هذا ما يجب أن يكون عليه الأمر، و(الأقل) هنا هو حدود الاستطاعة والتأثير في حياتك، وأنتَ أعرف بهذه الحدود، وأعلم بالذي من جهتك.

   لقد قلتُ بأنّ لمواطن التخلّف في أمتنا أو بلدتنا أو حينا أو تصرفات بيئتنا أسبابًا كثيرة، المسؤول عن جزء لا بأس به منها أشخاصٌ بمناصب وجماعات بسلطات ومؤسسات بصلاحيات واسعة أو حتى دول باجتماعات مصيرية، فهم المسؤولون عن القرارات المؤثرة على جموع الأمم لا أمتنا فقط، لا الأفراد، لكنّ يبقى أنَّ طرفًا من الأسباب يعني استطاعتك، ويصنع قيمتك.. وهو أنت، نفسك، والذي يرى أن الملامة تقع فقط على عاتق أصحاب الصلاحيات يحتقر الذوات، ويجعل الناس هملا، ومثله من يرى أن انعدام السلطة من الفرد يجعل مشروعه الوحيد وأثره اليتيم هو مصيره في الآخرة، فليعتزل إذن الدنيا التي لا يملك من سلطاتها شيء وينتظر مصيره في تلك الحياة.

   لا أجد تحقيرًا للذات أعظم من إلقاء جزئنا من المسؤولية على عاتق أولئك الأشخاص وتلك الجماعات والمؤسسات فقط لأن دورهم الحضاري أوضح وأكثر ضجيجًا، فما دورنا في الحياة إذن كأفراد سلكنا فيها طريقًا لا بأس به يجعلنا نعي حدود تأثيرنا وحجمه؟!

   إن مظاهر تقصيرنا الشخصي مرتبط ولو بالتأثير البعيد على مظاهر تخلفنا العام، هذه حقيقة تصرخ بها حقائق الكتاب والسنة.. والعقل، نومنا عن الصلوات، إهمال واجبات الأمانة، إفلات الحواس على المحرمات وعن الفضائل دون مجاهدة وتصبّر، تقصيرنا الدائم مع والدينا.. وغير ذلك كثير مما يعلمه الإنسان من نفسه.

   إننا مدينون بالاعتذار إلى أمتنا، وتاريخنا القادم، والأجيال من بعدنا على مشاركتنا -ببعض شؤوننا- في تراكمات التخلف، ومدينون بالاعتذار إلى دوائر التأثير من حولنا على قدوة سيئة جسدتها بعض طباعنا، وهزائمنا أمام الكسل والفتور واللذائذ، ومدينون بالاعتذار عن لحظاتٍ تتساقط من أيامنا كانت ستكون أفضل دائمًا بشيء من التصبر والمجاهدة.. والدعاء، ومدينون بالاعتذار إلى تضخيم الرجاء مع ضآلة المؤهلات، ومدينون بالاعتذار إلى واجبات الحقائق الملحّة على مصائد الأوهام والأماني التي ألهت قدراتنا عن الممكن المؤثّر.. وجعلتها تبحث في المستحيلات.

   وخير الاعتذار عملٌ صالحٌ ينقض سببه: (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)، وأعظم الفرص التي تواجه الإنسان في حياته هي أنفاسه القادمة، والتي تمنحه المزيد من العمر والحياة، والعمل الصالح يجمع شكر هذه المنحة وإصلاح ما فسد في الماضي، والقناعة بما تملك يدلك على الخطوة التالية للعمل دون مضيعة للوقت.

   نسأل الله أن نكون لبنة صلبة في أمتنا، وبذرةَ نهوضٍ لها، وأن يغفر لنا جناياتنا على نفوسنا.. وعليها.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال