جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


    هل أتاك نبأ طالوت وجنوده؟
    أم هل أتاك نبأ التابوت، وبقية آل موسى وآل هارون.. تحمله الملائكة؟
    ألم تسمع بالنهر العذب، ومن شرب منه إلا قليلًا منهم؟

*          *          *
  • (أأنت إياس؟) سأل المسؤول عبر الهاتف.
  • (نعم.. أهلًا بك..) رد إياس.
  • (أنعم وأكرم بك، وأهلا وسهلًا فيك عزيزي)
  • (أهلًا بك..) أجاب إياس خجلًا.
  • (وصلتنا رسالتك، وقرأنا نصوص مشاهدك، تبدو جيّدة، عرضتها على بعض الزملاء، إنها جيدة بالفعل، لذا تستطيع أن تقول أن هذه مكالمة جادة حول العمل معك، فهل لديك الاستعداد لتشريفنا ولقائنا؟)
  • ذهل إياس من حديث المسؤول في الطرف الآخر «إنه يحصل بحق!!» قال في نفسه، ثم أجاب: (ما شاء الله.. جميل.. أسعدتني حقًا).
  • (إذن، ستزورنا؟)
  • (بالطبع.. نعم.. بلا شك).
  • (جميل.. سيتواصل معك السكرتير بعد قليل لتحديد موعد يناسبنا جميعًا، سعيد بالتواصل معك)
  • (وأنا أتشرف بذلك..) (أهلًا..) (أهلا بك..) (إلى اللقاء!) أنهى إياس المكالمة، ثم فغر بفيه سارحًا غير مصدّق.
    وفي اليوم الحاضر، أفاق إياس من أحلام يقظته، وانتبه لمكانه، ها هو في مقهى راق يطل إطلالة متكلّفة على برج خليفة.. إنه في دبي، وتلك المكالمة حدثت منذ أسبوعين.

    اعتدل في جلسته، تنحنح، وأخذ نفسًا عميقًا لم يرتح بعده مع الأسف، فقد عاد للتوّ من زيارة تشريفية لمكاتب تلك القناة، واجهه المكلّف باستقباله خير مواجهة، وتجوّل به بين المكاتب والشقراوات.. خير جولة، ولعله استمتع كثيرًا بها، ربما، هو لا يدري، ولا زال قلقًا يتذكّر ويستحضر، ولعل الكافيين في هذه القهوة السوداء قد زاد الأمر سوءًا فتسارع نبضه وتندّى جبينه.

    لم يقابل المسؤول في هذه الجولة السريعة، بل كانت فضلةَ لطف وحميمية من قبلهم، كان مرتبكًا للغاية بهيئته المرتبطة بسمت بداوة شمال الجزيرة، وإن كان من جيل ما بعد التابلاين، إلا أن للأجداد بصماتهم التي لا تغادر سحنات أحفادهم حتى في هيئتهم ولباسهم مهما تستروا بالماركات وتكلّفوا لهجات غيرهم من.. لنقل من (الغيرهم!!) ونكتفي بذلك.

    هل ذكرت لكم أنهم أهدوه سبُحة جميلة؟ إن خرزاتها من الكهرمان الناعم، ورائحتها عطرة كالليمون، وفي طرفه الناتئ يظهر شعار القناة بارزًا ومتناسقًا مع لون الخرز، هديّة رائعة، وزادها رونقًا أنه لم يتلق الهدايا منذ سنوات، ربما مرّ عقد كامل على آخر هديّة نالها.. يا للأسى.

    كان يقلب خرزاتها بانتظامٍ ملحَّن كأنه الخليل إذ ينشئ أوزان الشعر، ثم يلوّح بها مرّة ويعيد تقليبها بأصابعه، وهكذا.. روتين لذيذ لا يمكن أن يُمل، لكنه يُظهِر ارتباكًا بلا شك، فقد بقي على الموعد مع المسؤول نصف ساعة، وكان إياس حريصًا على انصراف بصره خارج المقهى بعيدًا عن أعين العاملين فيه، لديهم تلك النظرات الحقيرة التي تلاحق الزبون بمجرد الانتهاء من قهوته، يتعمّدون إرباكه فيحومون حوله ويحتكّون بهالته ويضايقون مساحته الشخصية حتى تشتعل فيها مشاعر الحَرَج والقرف، فإما أن يصرفه الاستفزاز.. أو يطلب قهوة أخرى بثمنِ ليلةٍ في فندق رخيص فيتكلّف شربها حتى يجيء موعده لتبدأ جولة أخرى من المضايقة، وهذا ما فعل، لقد رفع رايته سريعًا، وطلب قهوة أخرى.

    ارتشف الجرعة الأخيرة من الكوب مع خليط من ثمالته، ثم التفت جهة العامل المنهمك في إعداد كوبه الآخر: «أرجو ألا يبصق عليه!!!» حدّث نفسه مركزًا على الكوب، ثم خُطف باله إلى ذكرى زيارته القصيرة للقناة.. مرّة أخرى.

    «ما أكثر النساء العاملات فيه!»، كنّ في الغالب من جنسيّة عربية لا يناسب كثرة انتشارهم حجم دولتهم الصغيرة، كنّ لطيفات للغاية، سافرات من أيّ شيء اعتاد عليه، كان هو المرتبك أثناء المصافحة، وهو من تزغلل عينه حين وقعت أعينهن بثبات عليها.. تسارعت أنفاسه في ذلك الجوّ المشحون بالعمل، علّها تخفف من حرارة الدماء في وجهه ورقبته، كان المكان غريبًا جدًا، أحسّ بأنّه قد اخترق شاشة ما فوجد نفسه داخل فيلمٍ أمريكي عن ريادة الشركات، بدا أن الاختلاط والسفور حين عايشهما في هذه الزيارة هيّنان ليّنان مباحان.. وجميلان، ولكن أيعني هذا أنهما كذلك، كل سوء في هذه الدنيا يصير هينًا لينا بالمساس وطول المعايشة وابتسامات من يقترفها مطمئنًا.

    «لا أدري.. كانت التجربة مربكة، ولكنها دافئة»

    «غالب اللقاءات الأولى مع الإناث دافئة، وإن كانت مرورًا عابرًا يا كثيّر كل فتاة»

    «لقد حذرونا من هذه الأمور حتى تصوّرت أنني حين أقتحم أجواءها يومًا؛ فسيمتلئ المكان بالقطران والرائحة الكريهة، وربما تظهر بعض الكائنات المتوحّشة، لكن يبدو أن بعض المحرّمات.. جميلة!»

    «بالطبع جميلة أيها المكتشف العظيم، أتريد أن يطال التحريم صوت الحمير ويُحلّل صوت الموسيقى ثم يكون الدين امتحانًا؟!! لن تتحايل عليّ بهذه الحيلة، أنا أريدك على بعض الفسق، بل قليل منه فقط، هذا القليل تذكرة شهرتك ووصولك إلى ما تتمنى وفرض نفسك على الغير». 

    تنهّد إياس وعادت به الذاكرة خمس سنوات خلت، إلى أوقات مجنونة كان مستغرقًا فيها يكتب ويتخيّل ويدور كالمسعور يلتقط الأفكار والمعاني ويرفع صوته بما يرصف منها، ويستدعي حياته.. وكل حياة، يقتبس ويبدي ويزيد في مواقفها وأحداثها حتى انتهى إلى كتابة مسلسلٍ وفيلمٍ ومجموعة قصصية في سنتين، كان لا يتجاوز خمس صفحات في الكتابة مهما أغرته الخيالات للمزيد، يسردها سريعًا عفو خاطره ثم يقضي بقيّة الساعات ينتقي الكلمات الصحيحة.. والدقيقة، ثم يبسّط الانتقاء ليلبي احتياجات المعاني، ويراجع ما سبق، كانت أيامًا جميلة.. لذيذة، لا أعادها الله!!

    وتقدمت به الذكرى ثلاث سنوات، إلى معاناة أخرى، يوم أن كان يؤمن بطِيبِ الطُّهْر، ولؤم غيره، قبل أن يتعلم أن مؤسسة الطُهر يعمل فيها موظفون فاشلون، في الاستقبال، والعلاقات العامة!! وحتى لو كانوا محافظين، وعلم كذلك أن للسوء محامون مهرة، ومندوبون طيبون للغاية، وأن التواضع والاستماع يميّز هؤلاء القوم أشد ما يكون، وأنّ الحياة بشروطه المثالية.. أمنيات.

    ظلّ يتنقّل بنصوصه بين الأصفياء، ولعله لا ينكر اليوم أنه كان مبالغًا في اعتداده بها، فهي عزيزة عليه (...)، دون إدراكه أنّ كلمة (فقط) كانت مفقودة من السياق، كان يجاهد غرور البشر لتُعطى نصوصه حقها من الإكرام والاحتفاء، لكنّ أعداءً التفوا من حوله في ساحة المعركة فرأى نفسه يجاهد فيها على ألا يُقهر شخصُه أو تُهَان كرامته.. وأن يُنصت إليه، وفي أقل الأحوال أن يصله الرد بالرفض.. كأقل حقوقه، (التجاهل، المماطلة، الوعود الكاذبة، التعالي) كلهم كانوا فرسانًا في جيش (الطهر) الذي التف من ورائه، كانت طعنات لا طعنة.

    لكنّه هنا الآن، يُقنع نفسه أن التواضع الذي ينتظره لا يمكن أن يكون تابعًا للسوء، التواضع لا يظهر إلا من الصالحين، وشيء من السوء لا بأس به، ومن منا لا يخطئ، غير أنّ إياسًا يزيد من حركته في الكرسي ويضطرب على سطحه ويُكثر الالتفات من حوله حتى إنّهُ قد أربك عمّال المقهى فأخذوا يطاولون رقابهم إلى ذات الجهات التي يقلب إياس بصره نحوها فلا يجدون أحدًا، ولن يجدوا، فالمبادئ لا تُرى، وقد كان إياس يفتقد مبادئه في المكان، بدا وكأنها خرجت مغضبة وهي تقول: إن أردت الذلّة بدوني.. فلك الذلّة كلها، كان فؤاده فارغًا بدونها، وكذا المكان.

    «انفذ بجلدك».. سمع إياس هذا الصوت البعيد ففزّ له، كان كصوت مبادئه، لكنّ غضبة انفجرت داخله نضحت في وجهه عبوسًا وتجهما.

    «لا عليك، إنّ لك أفكارًا عظيمة انتظرت لبروزها وقتًا طويلًا للغاية.. وأطول من اللازم (ولازمها التعجل بها) حتى تراكم عليها النسيان، وسبقك إلى بعضها أطفالٌ وشبابٌ يصغرونك فنالوا كلّ التقدير وصاروا في عداد المشاهير، إن الشهرة دافع عظيم لمزيد من الإبداع، ومن خلا مسرحه من العيون، خلت خشبته من الإبداع، فلا مزيد، فلماذا تنفذ بجلدك وإلى متى؟! أنت تستحق كل ما هو جيّد من التقدير والاحترام، لقد انتظرت طويلًا في بهو مؤسسة الطهر، كنت كضيف غير مرحّب به، وبدوت كسائلٍ واقف بباب اللئيم»

     «من سنّة الحياة أن السهولة أيسر طريق للسجن.. ولجهنم، ماذا أصنع، أألقي مبادئي وإيماني على رأس المنحدر وأسقط؟!»

    «أين السقوط؟! من أقنعك أن ترك المحافظة سقوط، ومن قال لك أن من أركان الإسلام أن تكون محافظًا؟! وهل ستكفر لأنك حصدت رصيدًا من السيئات؟! دلّني على واحد من الناس صفا خليطه وكملت طباعه؟! طلب الكمال فخّه الإيمان بإمكانية الوصول إليه، ستكون كالحمار الذي يتبع الجزرة المعلّقة.. فلن تصل للكمال، ولن يأكل الحمار الجزرة، ويُهجى في سياق التشبيهات!»

    «من أقنعني!!! القناعة هي التي أقنعتني أيها المغفّل، إن ولجت هذا الثقب الأسود، فلا أدري ما وراءه من المصائب أو الفوائد، حتى نفسي لا يمكن أن أتنبأ بها، فقد أفقدها هناك، وأغفل، يالسوء العاقبة إن غفلت، إن الغفلة مصيدة قاتلة إن استعنت بالمبررات وقنعت بالوسائل، وإن خواطرها إذا استرسلت معها نفذ منها كل سوء، وكان عاقبة أمرك خسرا»

    «يا رجل.. قد طارت الطيور بأرزاقها منذ وقت طويل وأنت لا تزال تهذي بهذا الكلام، الملايين يتمايلون على نغمات البرامج الخلاقة والمسلسلات الرائعة في القنوات وعلى يوتيوب وفي شتى التطبيقات الشهيرة، ونصوصك في العلّية قد علاها غبار النسيان، وقد سبقت الكثير من الأفكار التي ظهرت وشاعت فيها، لكنك تأخرت.. وتقدموا، هي في النهاية شيء من موسيقى، وشيء من دفق ماء المروءة، فهل أنت معصوم؟!! أم كامل؟! ألا تفْسُق كما يصنع غيرك من شتى البشر أم أنّك نبيّ مرسل؟! إذن.. فاستبدل شيئًا من فسوقك الحالي بفسوقِ ما تنتجه، وهكذا.. تتصالح مع نفسك، أمّا التمنّع والتأجيل فيضرك وقد فعل، وإن كان هناك من خواطر سوء فهي هذا الانكفاء والهلع من بضع سيئات، أنت رجل صالح لديه سلبيات، ومن يحاكمك على أسوأ ما فعلت لست بحاجة إليه»

    ارتجّت الطاولة بضربة من ركبة إياس بعد أن ازداد هزّها واضطرابها على وقع أفكاره الساخنة، فانقشع الصمت وتفرقت الخيالات عن المكان، كان الأمر محرجًا، ولم تساعد ابتسام إياس الخجولة على إزالة حمرة الخجل من وجنتيه بعد أن رفع أكياس السكّر المنتثرة من على الأرض، ثم فرّ من مشاعره ونظرات من حوله إلى شاشة الجوّال يتصفحها، وفي تطبيق تويتر أخذ يتجوّل بين التغريدات والحسابات حتى مرّ عليه هاشتاق لوفاة أحد المشاهير.

    «هه!»

    ابتسم إياس ابتسامة غامضة، فهذا الرجل كان منتجًا في برامج ومسلسلات كثيرة، وكلها مثيرة للجدل، وكلها ستثير حزن مبادئه لو كانت في المكان، إن وفاة ذلك الشخص على تلك الحال مما يسوء ويحزن، فلا يكرهه.. لكنه يرحمه، إنه من الجميل أن يكون للإنسان لسان صدق في الآخرين، لكنّ المحيّر أن يكون للإنسان لسان صدق في الآخرين الأشرار!!

    لكنّ قبساتٍ أخرى من سيرة ذلك الرجل حملت في قلب إياس أملًا وجرأة، إنّه حملٌ من الخير والشرّ معا، فبماذا أختلف عنه؟

    وفي الجهة المقابلة للمقهى رأى إياس المسؤول يترجل من سيارته، ويتجه لجسر المشاة، فارتبك واعتدل في جلسته ثم تأمّل الرجل الماشي، قبل أن يرد لباله خاطرٌ عجيبٌ عن (نهر المسيح الدجال)، فشخص ببصره وهو يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "معه نهران يجيران ... فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب".

    «أتقول يا لكع أن هذا الرجل هو المسيح الدجال؟!!!!»

    «لا.. بالطبع لا.. ماذا دهاك؟ في الحقيقة لا أدري.. وما يدريني، ربما يكون كائنًا فضائيًا، لكنّ الأكيد أن معه ماء حقيقته نارٌ تحرق».

    «لا تبالغ.. بل بعض فسق.. بعض فسق كما ذكرت لك يا رجل»

    زمّ شفتيه، وبللهما بلسانه ثم همهم بحذر: (بعض فسقٍ إذن؟!)

*          *          *

    فلما فصل طالوت بجنوده، سلكوا مفاوز وجاوزوا مسافاتٍ حتى التذ الماء، فابتلاهم بنهر، كل فلسفات الجمال تحث على شربه، فهو جمال، وحق الجمال في هذه الحياة الاستمتاع به، هكذا يقول المتفلسفون عنه، لكنّ سنّة الابتلاء بالمرصاد للإنسان السائر، فإن فهم مقتضياتها فهم حياته وخفت الكثير من صخب المِراء، وإن غفل أو تغافل كثرت أسئلته وزلاته حتى يزلّ بالصواب لكثرة خطئه!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال