جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


     تابعت قبل ثلاث سنوات مقطعًا لأحد مشاهير الساخرين الأمريكيين، وفوجئت به في معرض حديثه ساخرًا من فكرة نعيم الجنة وعذاب النار والقبر انطلاقًا من فكرة (الله يحبك) التي لطالما رددها القساوسة في مواعظهم وسوّقوا لها في أساليب (تبشيرهم) بديانتهم، ولا أذكر كلامه على وجه الدقّة إلا أن الفكرة العامة في كلامه أنّ هؤلاء الوعاظ يزعمون بأن (الله يحبّك)، "هه.. كيف يحبنا وهو يصنع النار لأجل بعضنا؟!!"، والجمهور يضحك على ذلك.. بالطبع.

     لم أحتمل متابعة بقيّة المقطع لسببين: الأول منهما.. أنه سخرية بالله تعالى، والثاني.. أنني لم أحتمل رؤية مشهد قائم على (سوء فهم)، فهو قد قال ما قاله بحجج انحرف نحوها من انحراف سابق (الديانة النصرانية)، فهو إنسان تائه يسخر من اتجاه إنسان تائه مثله، وكلاهما يظنّ أنه يسلك درب الصواب.

     ثم رأيت مقطعًا قبل عدّة أيام لداعية مسلم غير عربي فيما ظهر لي، فإذا هو يسوّق ذات الفكرة للحضور: الله يحبكم.. كلكم.

     وفي ظنّي أن الدافع لتسويق هذه الأفكار والدعوات نظرة قاصرة لسنن الله تعالى في الحياة، وأنها محاولة لصنع عالم وردي يصادم مبدأ (المسؤولية) ومن ثم (الثواب) و(العقاب) تحت ظلال (الرحمة) و(الرجاء)، ويزداد الأمر سوءًا حين تراهم (أو ترى أمثالهم) ينطلقون باتهام آخرين بأنهم يغلّبون جانب الخوف، والنار، والموت، ويخوفون العباد من الله تعالى، فباصطناع الضد يتوهمون أنّهم (بحقٍّ أو بدونه) على صواب. 

     و (كلا طرفي قصد الأمور ذميم).

     وأي مسلم مرّ مرورًا سريعًا على شيء من القرآن والسنّة، بل أي عاقل يتأمل مقتضيات هذه الفكرة بمحض فكره، سيرد: ومن قال أن الله تعالى يحبك؟! وكيف تزعم أن النار لمن يحبهم؟!

     ثم لك أن تستدلّ بهذه الآيات المتفرقة: {إن الله لا يحب المعتدين} {والله لا يحب الفساد} {والله لا يحب كل كفار أثيم} {والله لا يحب الظالمين} {لا يحب من كان مختالا فخورا} {لا يحب من كان خوانا أثيما} {والله لا يحب المفسدين} {إنه لا يحب المسرفين} {إن الله لا يحب الخائنين} {إنه لا يحب المستكبرين}.

     ولك كذلك أن تمرّ على هذين الحديثين من السنّة النبوية: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب بالاسواق جيفة بالليل حمار بالنهار عالم بالدنيا جاهل بالاخرة)(1)، (إنّ الله ليبغض الفاحش البذيء).

     أما منزلة (المحبّة) فيكفي في معرفة (فضلها) و(منزلتها) أن تدرك (الزّادَ) الذي تجاوز به الطريق إليها، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته).

     المحبّة (منزلة) و(رتبة)، لن يبلغها في قلوبنا إلا من رأينا منه البذل والإحسان والصدق، فلا يمكن أن نقبل هذا الزعم ابتداء من أي أحدٍ كان دون سابق اجتهاد لبلوغها حتى يستحقها في نفوسنا، فكيف لو كان يزعم أنه يحبنا، وهو يقترف من الأخلاق ما يخالف هذا الزعم؟ ولله المثل الأعلى.

     ولك أن تتأمل الآيات، ثم أرجع البصر مرّتين على (ما يزال) و(حتى) في الحديث، لتدرك أن هذا الدين (عدل) و(مسؤولية): {فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره}، ونحن في دنيانا ننظر شزرًا لمن يقعد عن العمل ثم يطلب المجد، ونزداد اشمئزازًا حين نرى من يطمئنه ويزيده خلودًا إلى الأرض، ونشهد على جنون من يطلب الفلاح في الدنيا ويرجوها دون عمل، فكيف رضينا ذلك في ديننا؟! وما نقول في والدٍ يقول لولده: "ستنجح في حياتك العملية". والولد مرتخ على وسائد الكسل؟!

     إنه من المؤلم أن تجد بعض الملأى بالطوام من الأفكار والشبه يقضي عمره كلّه يهدم دين الله تعالى حجرًا حجرًا، وينقض أحكامه وأصوله وفروعه ويسخر من أهله، ثم يرى بسبب فكرة (الله يحبك) أنه لم يصنع شيئًا، وقد رأيت فاسقًا يجاهر في إحدى القنوات بطوامه، فلما سُئل في ذات اللقاء عن ظنه بملاقاة الله، قال أن الله -تعالى- سيربت على كتفه ويثني عليه، كطالبٍ يحسن الظنّ بالنتائج ولم يذاكر ولا حتى سوّد صفحات الاختبار بما يبيَض الوجه.

     (ألا ترى كيف يسمم المفكرون الحياة، ويجعلون من النية الطيبة مكانًا لسؤالٍ آخر؟)، النيّة الطيبة لنشر هذا المعنى (الوردي) وزرعه في قلوب الناس لن يستدعيهم إلى أعماق مساحات الثقة والطمأنينة، بل سيؤدي لأسئلة أخرى تزعزع ثقة الناس في مبادئهم.. ودينهم.

________________________________
(1) (رواه أحمد وغيره بألفاظ مختلفة، وصححه الألباني. ومعنى الجعظري: المتكبر الجافي عن الموعظة، وقيل: الفظ الغليظ. وقيل: هو الذي يتنفخ بما ليس عنده. والجواظ: هو الأكول الشروب البطِر الكفور، وقيل: المختال في مشيه الغليظ الفظ. والسخاب -بالسين والصاد-: كثير الخصام، والسخب في الأسواق كثرة الخصام ورفع الصوت فيها. ومعنى جيفة بالليل: كناية عن كثرة نومه وخموله وعدم قيامه لصلاة الليل. ومعنى حمار بالنهار: أنه بليد في فهمه، منهمك في عمله الدنيوي لا يلتفت إلى سواه من الطاعة والعبادة.. فإذا جاء الليل استلقى على فراشه وبقي كالجيفة إلى الصباح. وهو- مع هذا- عالم بأمور دنياه ولكنه جاهل بأمر دينه لا يهتم به ولا يسأل عنه. والحديث تنبيه وتعليم للمسلم أن يبتعد عن هذه الصفات الذميمة ويتحلى بضدها من صفات أخلاق الإسلام الفاضلة.

.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال