جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

جهيمان اقتحام الحرم تفجير الحرم
    في بداية القرن الهجري الحالي هجم مجموعة من المهووسين على الحرم المكي، يقودهم جهيمان العتيبي في حادثة شهيرة، صحب فيها العتيبي نسيبه محمد بن عبدالله القحطاني زاعمًا أنه المهدي محمد بن عبدالله، والذي جاء في الروايات أنه يبايع بين الركن والمقام ويملأ الأرض عدلًا.. وغير ذلك.

    الحادثة شهيرة بين المسلمين.. ويهمني فيها ما حصل بعد اكتشاف مقتل مهديهم المزعوم في اليوم الرابع من الاقتحام، مع بقائهم اثنتي عشرة ليلة بعد ذلك، وتصريح أحد هؤلاء لجهيمان أنه رأى بعينه القحطاني مقتولًا في المسعى، وغطى جثته بنفسه بسجّاد الحرم، ثم انفعال جهيمان وقوله: يستحيل أن يموت وهو المهدي! فلما أيقن وتحقق من مقتله أمر بإخفاء الخبر عن بقيّة أتباعه!! فلما رأى ذلك الشخص عناد جهيمان، أدرك فظاعة ما عمل وسلم سلاحه واختبأ في قبو الحرم.

    أتخيلتم الواقعة؟!

    الرجل تيقن من مقتل صاحبه، ما يعني تداعي كل القواعد التي شيد عليها دوافع هذا الهجوم، وكأني بجهيمان يبصر الكعبة أمامه، والمسجدُ الحرام قد استحال لساحة حرب وقتال، فلم يُحجم أو ينكفّ عن القتال لكنه تبالهَ وتغاضى، واستمرّ في احتلاله للحرم حتى انكسر فغُلب وانهزم فاستسلم، ثم قال بكل برود في التحقيقات: لو كنت أعلم الغيب ما فعلت فعلتي هذه!!

    ولا أعني بالقواعد في الفقرة الماضية؛ الأحاديث الواردة في المهدي، وظهوره في آخر الزمان، وبيعته بين الركن والمقام، والخسف بالجيش الذي يقصد مكة لقتله.. إلى غير ذلك، فهذه لا تتهاوى، معاذ الله تعالى، وإنما أقصد الإسقاطَ الخاطئَ لكل هذه النصوص على الزمان والمكان والأشخاص، وتنزيلها ببلاهة على الواقع.

    ثم خابوا في النهاية.. فلا الزمان زمان المهدي، ولا القحطاني هو المهدي، ولا خُسف بالقوات الخاصة السعودية؛ بل كان الخسف بتلك القواعد التي ابتنوا عليها مشروع الهوس الذي انتهى إلى هذه الجناية العظيمة في تاريخ المسجد الحرام، فتأملوا مغبّة الأمر، وسوء العاقبة، شبابٌ ظنوا في أنفسهم أنهم صفوة الله من خلقه، وخيرته من عباده، فتأهبوا ليكونوا أنصار المهدي وأعوان المسيح بعد عودته، وبعد ثلاث ليالٍ بدؤوا يتساءلون عن اختفاء المهدي، وعن الخسف.. لتتجلّى الحقيقة أمامهم، ويجدون أنفسهم وقد صاروا ضحيّة من ضحايا فساد العقول، وعصابة من عصابات الأرض التي تسطو وتخلّ بالأمن وتفجع الناس في راحتهم ودورهم، غير أن المكان والزمان حكم عليهم بالخزي والعار إلى يوم الدين.(1)

    الإسقاط الخاطئ.. والظالم.. زلّت عنده أقدام وعقول، وضحاياه في التاريخ عظماء ودول وفرص.

    هي شرارةٌ لا تحتاج إلا لانتشار غازِ الحماقة والجهل.. وضعف الشخصية.

    وقد يكون العالِمُ حافظًا للمعرفة، ذكيًا في جانب الحفظ، صبورًا جلدًا أمام عقبات طريق العلم والحفظ، لكنه أحمقٌ يُستغفل كما يُستغفل الطفلُ، ويُحتال عليه كما يُحتال على المستهلك المغفّل من بائع خبيثٍ خبير، ولهذا أسبابٌ كثيرة: لوثة في النيّة، أو ظلمٌ بدر منه، أو معصية خفية.. ونحوها مما يحرمه التوفيق، ويخبو نور النباهة التي يتصف بها العالم العامل المخلص.

    وأسوأ منه، وأشأم من حاله.. الأحمق الجاهل الواثق بحاله.

    وفي هذه القصة أظهر مثال، فابن الابتدائية، كثيرُ اللحن، الذي كان يفرّ عن مساجد المدن هربًا من رقابة طلبة العلم إلى القرى والضواحي، سطا على عقول طلابٍ في الجامعة الإسلامية بكاريزماه وشخصيته، أو بحماقتهم وضعف نفوسهم، فقادهم لهذه الفعلة الشنيعة، ويقال في نكتةٍ شعبيّة عن وصف أمثال هؤلاء: ذكي دراسة، غبي حياة، فهو ذكي، ولكن في عقله نقاطًا عمياء، ورفوفَ غباء.

    لنضرب عزيزي القارئ وأختي القارئة أمثلةً أخرى على الإسقاط الخاطئ:

    من علامات ظهور الدجال.. جفاف بحيرة طبرية، ويتداول بعض المهووسين أخبارًا عن انحسار أطرافها، ونضوب مائها، وقرب جفافها، ويستبشرون بهذا وينتظرونه بالأيام والشهور، فماذا لو ابتدعت الدول حلولًا لملئها؟! أو كان سبب جفافها قحطٌ عابرٌ ينكشف فيُكرم الله تلك الأرض بالغيث الغزير؛ فتفيض البحيرة، ولما يأت بعدُ ذلك الجفافُ الدالّ على قرب ظهور الدجال.

    الإسقاط الظالم الخاطئ الماكر.. يجعل الشابَ يلقي بنفسه إلى الهلاك والموت منغمسًا فيه، فقط.. لأنّ رجلًا ما أو مجموعة من الرجال (فريق عمل) قال له بشكل غير مباشر: انظر يا فتى، هذا عَلَمٌ أسود كُتبت عليه شهادة التوحيد باللون الأبيض، وتعال لتتابع إصداراتِنا، ها نحن نقتل رجلًا نطلق عليه (مرتدًا) بالسيف.. ما رأيك؟ أها.. تحبُّ أن تكون خلفيّة المشهد نشيدًا حماسيًا جهاديًا؟ لا بأس.. وهذا النشيد استمع إليه، ما رأيك ببعض التكبير أثناء عرض المشهد.. جميل جميل، ولنفتتح هذا المشهد وأمثاله بآياتٍ من سورة الأنفال، ونختمه بأبيات شعرية نهجو فيها (القاعدين)، ثم لا نطمع منك بعد ذلك إلا أن تصف هذا بالجهاد من تلقاء نفسك.

    وعلى الطرف الآخر تجد شابًا يزدري أمته، ويستخف بإسلامه، ويتقزز من عروبته، فقط لأن رجلًا ما أو مجموعة ما أقنعوه بشكل مباشرٍ أو ملتو: أنّ أمتنا في هذه الأيام تعاني كما عانى الأوروبيون في عصورهم المظلمة، وأن الأمة لا تحتاج إلى عالمٍ يكرّر تراثها، ولا واعظٍ يسلط عليها دينها، ولا أديبٍ يقيدها بالفصيح، وإنما نحتاج لـ (مارتن لوثر) منا وفينا، يقول في إسلامنا ما قاله لوثر في دينه.. إلخ هذه الكليشة الأصلية.. الخام، والتي صار لها خلال العقود الماضية فروع وثمارٌ وتطورات دعائية وفكرية فتظهر في كل زمانٍ بأسلوب خلّاق ومظهرٍ مستحدث، فتجده في مشهدٍ سينمائي، وروايةٍ أدبية، وكاريكاتير.. وغيرها، والأصل واحد: الاستغراق في الشبهة والشهوة.. وضياع العزّة والدين، ومسخ المجتمعات المسلمة، وسلخها من هويتها، مقابل اعتزاز الشعوب الغربية بهويتها، وعودتها إليها كل يوم.

    أخي الشاب، وأختي الشابة.. الهدف المُخْلص، والدافع الشريف، والعَرْض العاطفي، والشعار البرّاق، لا يزكّي (إسقاط الفكرة على الواقع)، فآيات الجهاد وأحكام المرتد لا تعطي لمن يسقطها على الواقع وينزلها على الزمان والمكان عصمةً وتزكية، وألفاظ (الغلو) لها شروط وأحكام وليست حقيقة لمجرد الإشارة لأي أحد بها؛ فقد يكون أحمقًا مطاعًا، أو عميلًا خبيثًا، أو فاضلًا مخطئًا أشدّ الخطأ، فعلى أي ركنٍ متين سلّمت عقلك إليه؟! هل هو أخبر منك بواقعك؟! هل واقع الناس وحقيقة أحوالهم يُدرس من متنٍ فقهيٍ في الكتب؟! فحفظه هذا الشخص.. ولم تحفظه أنت؟! وعكف عليه يذاكره.. وأهملتَ؟!

    عثمان بن عفان رضي الله عنه خير البشر في وقته، قتل بحججٍ لو كانت في زماننا، لاعتبر الحمقى الخروج عليه (ربيعًا عربيًا)، وهي لو تمعن اللبيب بها لعرفَ أنها شعارات وتنظير جميل، بزعم الخشية على المال العام، والصرامة في اتباع القرآن، لكن إسقاطها خاطئ وظالم وخبيث.

    وما دافع ذلك الخبيث الذي صرخ بطلب العدل؟ (العدل) هذه القيمة السامية، لكنه كان يطلبها من خير البشر وسيدهم صلى الله عليه وسلم: «اعدل يا محمّد» «يا رسول الله اتق الله»(2) بمعنى أن الدافع والعرض قيّمان، لكن الإسقاط قبيحٌ للغاية، ومع ذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتأمله ويتبعه ببصره وقد مضى أن له أصحابًا: نفس الدافع، نفس العرض.. نفس الإسقاط الغبي.

    وفي المقابل كان عمر المختار رحمه الله، والقسّام، كلهم عند الاستعمار وعملائه: متشددون، متطرفون.. إلخ؛ لأن الاستعمار يرى أن (الغلو) في حمل السلاح ضده، بينما شعوب الاستعمار الغربية تحتفي بجنودها القتلة، وتمجدّهم في كل البرامج والعروض وتردد: نحن نقدّر ما تصنعونه! 

    ولو اطلع الشاب أو الشابة على أحكام وقواعد تنزيل الأحكام المبثوثة في الكتب والتي فصلها علماء الأمة منذ عهد الصحابة وحتى يومنا هذا (أيًا كانت: شرعية أو فكرية أو اجتماعية.. وغيرها) أقول: لو اطلعوا عليها لدارت بهم الدنيا من عمق التخصص فيها، والحزم الواضح في بيان ضوابطها وأحكامها وأدلتها مع الدقّة، ومساحة جهلهم بها، ثم يأتيك الأخ (ذكي دراسة، غبي حياة) أو الأسوأ منهم (غبي دراسة، غبي حياة).. فيقبل أن يُقدّم روحه أو دينه هديّة لشخصٍ ما لأنه ضَعُف أمام إسقاطه الخاطئ كما يضعف الطفل أمام الحلوى.

    فيا حسرة على هذه العقول المعطّلة.

    لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه يأتي زمان يقتل فيه الرجل جاره وابن عمّه وعمّه.. قال عن السبب: «يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكُمِ الزَّمَانِ حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسَ عَلَى شَيْء»(3) فصار بعض الشباب كحال أصحاب جهيمان، دخلوا الحرم وفي أدمغتهم أثرٌ كأثر المخدّر والمسكر، شعور خادعٌ مبهجٌ يطير بأرواحهم لأنهم صاروا أعوان المهدي وسيقابلون عيسى خلال أيام، ويرون هلاك المسيح الدجّال بعد أشهر، وسيرون الذئب عام 1402هـ يرعى مع الغنم من الأمن والنعم التترى في عهد عيسى، لكنهم أفاقوا من أثر المخدّر كما يفيق المدمن على عذابه وواقع العفن فخرجوا من الحرم والعار الثقيل قد أمال رقابهم.

____________________________________
(1) يُرجع للقاءات ناصر الحزيمي المبثوثة في الشبكة ولكتابه (أيّام مع جهيمان)، وهو ممن شهد هذه الجماعة وتجهيزها الفكري والإعداد للاقتحام.
(2) يرجع لهذه الفتوى حول الروايتين: (اضغط هنا).
(3) رواه ابن ماجه وأحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ونعيم بن حماد، والحاكم وصححه على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي وصححه الألباني (التخريج نقلًا عن فتوى في إسلام ويب).
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال