جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


مقالي هذا فرصة كنت أتحيّن الحديث فيه عند أقرب مناسبة، وللأسف.. المناسبة التي سأنتهز الفرصة في الحديث عنها أثّرت على كل مسلم، وبخاصة أن الكثير منا رأى أحداثها المؤلمة بالصوت والصورة، وهي حادثة سقوط الرافعة في المسجد الحرام، أسأل الله الرحمة للأموات، والشفاء والعافية للمصابين، ومع تباعد الضوضاء، وهدوء المشاعر.. حان وقت الحديث.

بعد حصول الحادثة، انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي في بث الحزن والعزاء والتذكير بالله والترحم على الأموات والمطالبة بالمحاسبة، وتخللها العديد من المشاركات الشعرية التي صوّرت الحدث بـ (عين الشاعر) بعيدًا عن اعتبارات الواقع.

منهم الشاعر فواز اللعبون الذي قال في بيت له:

عجبي لرافعة رأت مِن حولها *** تلويحة البشرى فخرّت ساجدة

وبيت للشاعر هلال الشيادي قال فيه:

يا رب رافعة على الحرم انحنت *** في سجدة تسبيحها طهر الدماء

وأيضًا لعيسى جرابا شعر يقول فيه:

هي رافعةْ
خشعتْ لذكرِ اللهِ..
تجريهِ الشفاهُ الساجعةْ !
سقطتْ؟ لعمرُ اللهِ لا..
لكنها أحنتْ؛
لترفعَ كلّ روحٍ خاشعةْ !

بعد هذه (المواساة) الأدبيّة، انفجر البعض في وجوه هؤلاء الشعراء، فمنهم من يتهمهم بالوقاحة، ومنهم من يتهمهم بتبرير أي تقصير متوقَّع ضد المؤسسة المشرفة على مشروع التوسعة، ومنهم من يرد لمجرد السخرية، وضربت طبول الحرب، ورفعت راية (الهشتقة)، وعلقت الذبائح!

على أيّة حال.. ما طالعته من ردود على هؤلاء الشعراء من أعجب ما مر علي في تعامل الناس مع الشعر والأدب، وكنت من قبلُ مصابًا بذات الدهشة التي اعتلتني هنا، في ردود البعض الساخرة والغاضبة على من يكتب في تعريف صفحته الشخصية أو في تغريداته قول الشافعي:

أحب الصالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة

حيث كان البعض يصنّف من يحتفي بهذه الأبيات بقوله (جماعة أحب الصالحين ولست منهم)، أو يأتيك أحدهم فيتلبس دور المحقق ويقول لهم: لماذا لست منهم؟ فاجرٌ وتعصي الله تعالى، ثم تحب الصالحين؟!! وتظن أن مجرّد محبّتهم يشفع لك؟! ثم عندما تقول (وأكره من تجارته المعاصي *** ولو كنّا سويًا في البضاعة) ألا تُحسب من المجاهرين بمعاصيهم؟ فأين: كل أمتي معافى إلا المجاهرين؟ وكيف تكره شيئًا وتقوم به؟ ألا تدري بأنها صفةٌ من صفات المنافقين؟

وأنا بدوري سأقوم بدور المحقق وأبدأ بالسؤال التالي: منذ متى يُتعامل مع الشعر بهذه الحدّية؟ منذ متى يتعامل معه وكأنه مسألة رياضية لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا: 1 + 1=2؟

البعض تتخيّل أنه كان سجينًا منذ عقود، ولا يجد له أنيسًا في زنزانته الضيقة إلا كتابًا في الرياضيات أو المنطق، فقرأه المسكين حتى صارت مسائله كالوشم في مخّه، ثم خرج من السجن فكان أوّل ما واجهه من الفنون.. هذه الأبيات، فتعامل معها بصرامةِ المعادلات، وجدل المنطق.

بالله عليكم.. لو مرّ على أمثال هؤلاء قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: (فجرمي عظيم من قديم وحادث *** وعفوك يأتي العبد أعلى وأجسما)، هل سيبحث شارلوك هولمز زمانه في سجلات التاريخ عن الجريمة الجنائية التي قام بها الشافعي؟ ولو قرأ أحدهم قول المتنبي: (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وأسمعت كلماتي من به صمم)، هل سيتأبط ديوان المتنبي ويذهب إلى منظمة الصحة العالمية ليأخذ براءة اختراع على وصف أدب المتنبي كعلاج مادي لضعف النظر والسمع؟ أو لو قرأ قول أبي تمام: (فبَيْنَ أيَّامِكَ اللاَّتي نُصِرْتَ بِهَا *** وبَيْنَ أيَّامِ بَدْر أَقْرَبُ النَّسَبِ) أيبحث في الأحياء عن إمكانية تزاوج الأيام فيما بينها، وفي علم الأنساب عن قرابة يوم بدر بيوم عمّورية؟!

رد أحدهم على أحد الشعراء الذين شاركوا في مواساة (حادثة الرافعة) بما معناه: لو كان المقتول أحد أقاربك ما قلت سجدت يا رافعة، بل ذهبت تقاضي الشركة والدولة بكبرها. ثم تبعته الردود تتحسب وتشتكي إلى الله على هؤلاء الشعراء الأنانيين!!.

كنت أقرأ أمثال هذه الردود متعجبًا ومتسائلًا: كيف يفكر هؤلاء؟ كيف يمكن أن يهديهم تفكيرهم ولو للحظة إلى أن الشاعر كان يعطي معلومةً وكأنها «مانشيت» عريض في صحيفة رسمية تقول: [ أثبتت التحقيقات أن الرافعة سقطت بسبب سجودها لله تعالى ].

لو كان أحد هؤلاء، بما يملك من طريقة عجيبة في التفكير، قد مرّ بجوار الإمام أبي محمد الأندلسي القحطاني رحمه الله تعالى، صاحب النونية الشهيرة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وكان قد قابله بعد أن سمع قوله:

والله لو علموا قبيح سريرتي *** لأبى السلام علي من يلقاني

هل سيعرض عنه، ويقول: لن أسلم عليك يا قبيح السريرة، تظهر الخير وتشرح عقيدة أهل السنة والجماعة، ثم تجاهر بسوء نيتك، أنت أخبرت العالم بألا يسلموا عليك، إذن.. لا سلام ولا كلام بيننا!.

لو مرّت قصائد الرثاء والمواساة بهذا المنخل، ما وصلتنا (علوٌّ في الحياة وفي الممات)، ولا (وهلال أيام مضى لم يستدر) ولا (ومن هذا الذي عني ثناكا).. وأظن أنه لو قُدّر لقصيدةٍ تجاوز هذا المنخل المِجهري لكانت كالتالي:

فلانٌ مات فليرحمه ربّي!!! 

لن يصلنا غير هذا الشطر، والذي سيجده أحد علماء المختبرات في مخطوطة برشامٍ صغير، تجعل هذا العالِم يهتم بهذا النوع من الأدب ويؤسس مدرسة جديدة في الأدب باسم: (مدرسة النانو)، نسبة لتقنية النانو الدقيقة، التي ابتلانا الله بتطبيقاتها الفكرية(!) هذه الأيام.

حقًا.. عش رجبًا ترى عجبًا، أعلم أن رضا الناس غاية لا تدرك، وكنت أحسن الظن بأن السبب في ذلك هو اختلاف أذواق الناس، لكن اكتشفت سببًا كنت أجهله، وهو أن شروط (الرضا) عند بعض الناس (مستحيلة) وصعبة، ومن باب: فَرْد حمزة ثاير ثاير!
تعليقان (2)
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

  1. حفظك الله ورعاك ودام قلمك شموخا
    حقيقه اعجبتني فرد حمزه ثاير ثاير
    بلغ سلامي للوالدين والاخوان

    ردحذف
  2. جزاك الله خير، وشكرًا على طيب مشاعرك، وجميل ردك أخي.
    بورك فيك عزيزي.

    ردحذف

إعلان أسفل المقال