جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة



   أتممت قبيل كتابتي لهذا المقال إلغاء بعض الشخصيات التي ظننت لمدة طويلة أنها ستضيف لي قيمة ما لتقارب اهتماماتنا، بعضهم من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، وآخرون أقل شهرة، وفي طريقهم إليها، وقد وقفت قبيل مجزرة الإلغاء التي قمت بها وقفةً فرضها شعورٌ غامرٌ بأن أمرًا ما غير مريح يجري معي بسببهم، يجعلني أكثر إحساسًا بالتفاهة، وشعورًا بالجوع الدائم نحو طموح غامض، وعدم الاستفادة مع عِظم الفوائد التي يُلقونها.

   لقد دخلت مرحلة استعرت فيها مصطلح (الهدم الخلّاق) الإداري في تعاملي مع مواقع التواصل، فأستبعد أنماط المتابعة القديمة، وأستبدلها بأنماط مفيدة، أو لا أستبدلها، فقد تملّكني إحساس في الأشهر الأخيرة بأنّني لم أجد الطريقة المناسبة للاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأت أتساءل عن صواب جعل (التعلّم) غاية فيها، بعيدًا عن الإشكالية الشهيرة: الإدمان وطول الوقت في تصفحها. لا، إنما أعني أنني لم أستقر على استخدام نافع لها، سواء أدمنته أم اعتدلت فيه، بل أراها تسببت بأذى أدركت بعض أثره في تلاشي الشغف، وندرة الإنتاجية في المجال الذي أهواه، وإحباط عام.

   والأثر النفسي لا يهبط من السماء؛ بل له أسباب سيدركها الإنسان إمّا لوقوفه للمحاسبة والتأمل، أو لأنه نضج فانتبه ذات موقفٍ ووعي، ولم يكن لينتبه قبل ذلك، فللزمان دوره هنا.

   وكان أن وقفت مرّة لأسأل نفسي عن سبب شعوري بالضيق بعد مدة من متابعة الحسابات المهتمة بالحقول التي أحبها؟ لماذا صار أثر متابعتي لها مضادًا لما كنت أرجوه منها؟!

   وقد ظفرت في هذه الوقفة ببعض إجاباتٍ كشفت الآثار التي عانيت منها تدريجيًا أثناء المتابعة.

   فمنها على سبيل المثال: التذكير بالرائع.. الذي لم تكن مهتمًا به.

   هذه إحدى السلبيات التي أثارت شعور الإحباط لديّ، بعد أن أدخلتني حينًا في دوامة من الفوضى والتخبط.

   إنّ لك اهتمامًا بالنثر الأدبي، وبالفكر، فتقوم بمتابعة مثقفٍ لديه ذات الاهتمام، مع توسّع نحو اهتمامات أخرى كالفلسفة، والشعر، والتفسير، وبعض العلوم الطبيعية الجذابة، فيصير هذا التوسّع منه مشتتًا لاهتماماتك الأساسية التي تابعته من أجلها، ويفتك بقدرة التركيز عندك عبر تسويقه الجذّاب والنابع من اهتمام عميق وصادق بتلك الفنون، ومع ديمومة عرضه، سيذكرك بما فات من روائعها، ويبهرك بأفكارها الأساسية، فيكون أثر ذلك فيك تحسرًا على ما فاتك منها، أو يجرّك إلى تفاصيل تلك الأفكار لتصير أمام هذا الفنّ الذي لم تطرقه قبل ذلك كطفلٍ في مرحلة الحضانة يتعلّم ألف باء اللغة، فتبحث في الكيفيات، وتغرق في أخطاء البدايات، لتنسى مشيتك.. وتضيع في مشي الآخرين، وتغفل عن حالتك الخاصة وتغادر ميادينك لتتفوق على مواهبهم وحالاتهم.

   بل ربما يكون هذا التذكير الرائع واقعًا في نطاق اهتمامك بعيدًا عن مسارك فيه، فهو -وهذا أثرٌ آخر- يذكّرك بمؤلفات تفتقدها خزائنك، ويكون تجميعهم لعناوين التخصص الذي تهواه مختلف عنك، لاختلاف طرق دراستهم له، فيعملون -في ذائقتك التي تطمئنّ لها وتجربتك المستقرّة- عمل كرة البولينغ بالأجسام الخشبية المستهدفة، فمكتبتك رُتبت بناء على ما صرفته لها من قدرة مادية، ومن زهرة عمرك، ومن إدراكٍ متراكم بحدودك وقدراتك، وما ارتحت له من أساليب القراءة والحفظ والمراجعة، قد نظّمته بصوابك وأخطائك ومئات الزيارات والجولات الهادئة الموفقة.. وغير الموفقة في المكتبات، وأنت بعدُ مستغرق في قراءة ما حزته قديمًا، ومتحفزٌ للوثوب على بقيتها، وحاشدٌ قواك وتركيزك لهذا الهدف، فيحرمك تسويقهم الجذاب، وإبهار ديكوراتهم المكتبية، وروعة المتاجر التي يوثقون ما (صدر حديثًا) فيها، ليعرضوه لك بعد أن ألقيت كتابك لتتابع مستجداتهم- عن هذا التجرّد الذي كنت منعمًا به، ويكون لسان حالهم وإن لم يقصدوه: إنّ كلّ ما اقتنيته لا شيء مقارنة بهذه المؤلفات الرائعة التي يصعب أن تجدها قربك، فعليك أن تقتطع زمنًا غاليًا لتتبّعها، مع بذل أموالٍ أكثر لتهنأ بالحصول عليها.. أخيرًا، فضلًا عن جديد المؤلفات النفيسة في تخصصك، والذي لم تكن تعلم عنها شيئًا، وتبدو كتبك المصفوفة قريبًا منك مهترئة لا قيمة لها مقارنة بما نقتنيه ونعلن عنه كل يوم.

   إن تلك الدقائق (وربما الساعات) الخاشعة التي تتجمهر فيها حواسك لقراءة سلسلة تغريدات، أو متابعة سنابات، تنتقل فيها من أصولي يجذبك لموازين الاستنباط، إلى فيلسوف تغريك اقتباساته بسياط العدميين، لأديب يذيبك بالأساليب الظريفة للروائيين.. إلخ- لا تليق إلا أمام كتاب، أو معلّم وشيخ، لا أمام أقوامٍ يجرّبون عليك فضول ظنونهم، ولا يعرفون طبيعة من يتابعهم، ويعتبرون هذا النشاط فصلًا تدريبيًا في سيرهم الذاتية، فحينًا يخاطبون المبتدئ، وحينًا يخاطبون ألدّ الأعداء، وتارةً يبثّون لك ما يظنونه صوابًا، ويشركونك في هذا الظن، فإذا هو من سقطات أعمارهم، وحياتك بالكاد تحتمل اجتهاداتك الخاطئة في التعلّم، فكيف باجتهادات الغير من القرناء، أو من يصغرونك بالعمر والإدراك وغشّوك بجمال أساليبهم، أو من يكبرونك وقد امتدت جذور عقولهم في أعماق ما تأسسوا عليه فلم يروا بأسًا في الخواطر الفوضوية، وأحاطوك بتلك "الوثوقية" العالية التي تفرض نفسها على النفوس، وتعمل في الناس عمل التنويم المغناطيسي.. حتى زمن الاستيعاب وزوال هالتها وإدراك المصائب التي خلفتها هذه المرحلة.

   وإلى ذلك اليوم الذي تستوعب فيه حقيقة ما يجري، ستصرف المزيد من الوقت الثمين حتى يأتي؛ فتدرك أن هذه المتابعات تنحدر بك، وتزداد سرعة انحدارها مع الأيام، وإن ارتفعت حينًا ارتفاعًا شكليًا، فهو ارتفاعٌ مؤقتٌ ضمن انحدار عام.. تمامًا كالتاريخ، وكما ذكرت بداية المقال، ستشعر بجوعٍ لا تدري ما يشبعه، ستقف مرتبكًا، ويسقط ذهنك في وهدة الجوع (والجوع يُرضي الأسودَ بالجيف) وستجد نفسك تتخبط بين مئات المعلومات التي تدهشك متفرقة، لكنها بمجموعها هراء، لا تمنحك قيمة، وإنما لذّة اللحظة.. ثمّ إلى النسيان.

   إن لوسائل التواصل غايات أكثر نفعًا وأقل ضررًا من جعلها منبعًا آخر للتعلّم، فهي للبثّ والدردشة العفوية والتعارف، وما ينشره الناس فيها يصلح للمصادفة أثناء بحث عن موضوع تهتم به، وليس للتتبع الدائم وانتظار إطلالات الفوائد المهمة بين آلاف المتاهات، ومن أمثلة المصادفة التي ذكرتها أنني كنت أتابع أحد القرّاء الذين يطرقون مواضيع ثقافية متنوعة عبر تطبيق (سنابشات)، وأدركت أنها لم تفدني بمجموعها كما بيّنت في الفقرة الماضية، فألغيت متابعته، وأنهيت منذ أيام كتابًا ما، فأحببت بعد إنهائه أن أبحث في المراجعات التي تطرقت له، فوجدت أثناء البحث مقطعًا في موقع (يوتيوب) موضوعه الكتاب الذي قرأته، ففوجئت أن المتكلم هو صاحبي الذي ألغيت متابعته، وقد أنشأ القناة لحفظ مقاطعه التي ينشرها في (سنابشات)، فكان مقطعه الطويل أعظم فائدة لي من كل متابعاتي السابقة له ولأمثاله في التطبيق؛ لأنه ارتبط بنشاطي الخاص، وتتبعي لمصادر الموضوع الذي أبحث فيه انطلاقًا من اهتمامي المركّز، لا انتظارًا عامًا مشتِّتًا في الصفحات الرئيسية لمواقع التواصل علّني أصادف أثناءه المعلومات التي تفيدني من بين آلاف الشجارات والخواطر والمعلومات العامة والأخبار السياسية وأذواق الغير، بلا طائل، سواء وقعت عليها أم لم أقع.

   وأرى أن من أعظم الناس نفعًا لي في هذه المواقع، من كانت شخصيته هي الأبرز حضورًا في كتاباته، فترى في حديثه ودردشته ونقاشه وغضبه خليطًا من مجموع حياته بأعماقها النفسية وعواملها الاجتماعية وأبعادها المعرفية بلا تماهي أو ذوبان في المظاهر الجمعيّة أو التزييف بالادعاءات أدبيّة، فأرى هذا المزيج أثناء حديثه عن كتاب، أو تصويره للهوه مع أصحابه، أو في شاجراته الفكرية أو السياسية أو حتى الرياضية مع الغير، أو فيما يبثّه من سوداوية وملل ومفردات بغيضة.

   أمّا الدعايات المشتتة والمدسوسة، والأوعية الناقلة، فاقصد يا صاحبي بحور الكتب ومصادرك الأصيلة واختياراتك المتراكمة وعناء تجاربك.. وخلّ القنوات.


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال