جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

طفل فقير يلعب

شاهدت في يوتيوب مقطعًا بعنوانٍ كوميدي، في قناةٍ كوميدية، بكلمات دلاليةٍ تصنفه ككوميديا، لسائق أُجرة مسنّ في بلد عربي أوصل راكبًا خليجيًا (كان يصور الموقف بالجوال)، فلما توقف قال الراكب: بكم؟ فرد السائق: (خليه علينا)، فتظارف الراكب ونزل متظاهرًا بتصديق مجاملته، ليمسكه السائق غاضبًا، فضحك الراكب وقال ساخرًا: رجعت في كلامك؟! 

دهشت مما رأيت، وأعدت المقطع مرارًا لعلّي ألمح (تمثيلًا) في المقطع، فانقلب البصر خائبًا، وزاد عجبي وأظهر حزني ضحك الناس على ردة فعل هذا الرجل، وأظنه عدم استيعاب لحقيقة هذا الموقف بعيدًا عن مجاملة السائق، ولعل الشاب نفسه لم ير الموقف من الزاوية التي رأيتها، وكان حسن النية في الموقف من باب المزاح، لكن لا أظنه مزاحًا مقبولًا.

فأما الزاوية التي رأيت منها هذا الموقف، فقد أبصرت رجلًا فقيرًا في بلد فقير، افتعل مشهدًا أظهر فيه الجانب المعنوي من الكرم والكرامة التي لا يستطيع تقديمها ماديًا، أو يستطيع ولكن سيكون على حساب لقمة عيشه وعيش أبنائه، فيعرضها بالكلام اعتزازًا بنفسه وبقيمه الأصيلة، وليخفف من وطأة الموقف المادي، ويلين خشونته التعاقدية، ثم أتى هذا الشاب وهبط بسموّ الموقف وأعاده للأرقام المتبادلة، بتذكير هذا المسن بالجانب (المادي) من الموقف والذي لا يستطيع بذله إلا بنزع اللقمة من فم ابنه. 

ذلك المسنّ لم يرجع عن كلامه حين أمسك بكتف الشاب، وإنما رجع إلى الموقف الخام بعيدًا عن الهالات والمقدسات والجماليات المحيطة به، رجع إلى (خذ، وهات).. وسيبقى أثرها في نفسه بلا شك، وربما يكون أكثر حذرًا في بث التراحم، كما يحذر محب السلام -بعد الكثير من المواقف التي لا يُرد عليه السلام فيها- من البدء به، وربما ينقطع عنه، لأن أمثال هذا الشاب لم يتركوا له حتى هذا الشيء القليل المتبقي. 

وفي موقف له ارتباط بهذا المعنى، وقعت على صورتين في تطبيق "انستقرام" رأيت فيهما مجلسًا عُرض ضمن أسلوب (قبل/بعد)، ولم يكن بين الصورتين اختلاف كبير، ما خلا اكسسوارات رخيصة أضيفت له، مع بعض اللمسات الجمالية القليلة والتي أراها عظيمة القدر في عينِ قليل الحيلة، وبدلًا من ترك الناس يفرحون في مساحة قدرتهم، رأيت سخريةً من أسلوب التزيين تبعث على الاشمئزاز التام من هذه القسوة التي تتصف بها قلوب البعض، وانتشر أمرها حتى وصل لمواقع التواصل الأخرى! 

وقد تكررت عليّ مواقف مشابهة لهذا الموقف، كان لسان حال الساخرين فيها: انظر لهؤلاء، انظر كيف يحاولون تحسين حياتهم البائسة ببعض الاكسسوارات الرخيصة، والماركات المقلدة! هيا.. تعالوا لنجتمع ونتفاعل بالسخرية من إبداعاتهم.

وأنا على يقين أنني لو نبهت بعضهم على حقيقة منظرهم كما أراه، وبينته هنا، سيتأثر كثيرًا.. فالغفلة ونسيان النفس أثناء الاستغراق ضمن الضجيج والغوغائية لها حضورها في هذه المواقف، فلا أشترط في أصحابها الشرّ أو النية السيئة، بل ربما يكونوا على العكس من ذلك تمامًا، لكنها غفلة الصالحين.

يا جماعة، بيننا وبين التقدم الغربي المادي سنوات ضوئية، ولا أظن أن مولود أيامنا سيدرك وصولنا لمستواهم المادي.. إن حصل ذلك، ولا قريبًا منه، رأس مالنا في هذه الحياة بعد نعمة التوحيد ومقتضاه هو التراحم بيننا، وما يتفرع عنه من آثار تسمو بمجتمعاتنا، وتسعد القلوب، وتنثر السكينة في النفوس، فإذا تفتتت هذه البقايا صرنا خليطًا من الكدر والأقذاء، يعيش عالمًا موحشًا وخاليًا من الألفة. 

إن غياب هذا الجانب من مراعاة الغير، وفقدان الحساسية العاطفية في مثل هذه الأمور، جنايته في النهاية على مجتمعك الذي تعيشه، وأعباؤه سترتد إلى حيّك السكني، وطريقك أنت وأحبائك، والبيئات التي ترتادونها، وستراها مع الأيام في سلوك جيرانك، وطباع أبنائك، ويتأثر بذلك معدلات السعادة والأمن.. ونحوه.

فلا تغفلوا عن وجود أناس من حولكم، فرحة عمرهم، ونزهة أيامهم، محلات أبو ريالين وخمسة ريال ونحوها، وفرحتهم بإكسسوار صيني رخيص تعادل فرحتك بماركتك، وأنس أطفالهم بمنتزهات قريتهم توازي فرحك بسياحتك الخارجية، وزينتهم الهابطة عن مستوى زينتك في بيوتهم وسياراتهم ومجالسهم تعادلها مثيلتها عندكم في أثر البهجة والارتياح. 

نعم، حالهم ليست ذنْبك، لكن السخرية منها هي الذنب، والله يحب أن يرى أثر نعمته عليكم، فلا تسخروا من أثر نعمته على غيركم، فكلها نعم، وإن لم ترق لكم قيمتها ولا هيأتها، وهم مكتفون بها وإن لم ترق لذائقتكم ولا مستواكم كما اكتفيتم بما عندكم، فمالكم ولهم؟! 


لا تمزحن بما كرهت فربما *** ضرب المزاح عليك بالتحقيق


تعليق واحد
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

  1. مقال رائع ، لامس مشاعري للغاية وأحدث بهجة في النفس إذ أن هناك أمثالك مازالت الإنسانية عامرة في قلوبهم ، علينا أن نشعر بغيرنا في أدق وأتفه التفاصيل ، شكراً لجمال قلمك و خُلقك.

    ردحذف

إعلان أسفل المقال