جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


   الرخو الهيّن وضعيف الشخصية من يُسقط بقيّة حصونه ويرفع راية الاستسلام لأنّ حصنًا منها سقط.

   ‏للشيطان أعوانٌ تجدهم في مواقع التواصل يصرفون أوقاتهم لإخراس ألسن الناصحين بتذكيرهم ‏بأنّهم يعصون، فإن رأوك منكِرًا لمنكَر، أو ناطقًا بنصيحة، أخذوا ينبشون صفحتك، وسيرتك الذاتية، وماضيك، ليلوّحوا لك بتقصير أو معصية، فقط.. ليُخرسوا فضيلة الإنكار، بمعصية ما، فيقذفون بباطل الشخص على حقّه.. ليدحضوا به هذا الحق، كأوسخ همّة من الممكن أن تراها من إنسان ينسب نفسه لهذا الدين.

   لتتخيل معي أنك رأيتَ والدًا ينصح ولده بالاجتهاد في دراسته أو يعاتبه ويعاقبه على وقوعه في التدخين أو ممارسته للتفحيط، ثم يأتيه أحد هؤلاء ويصرخ فيه: "لك عين" تنصحه وأنت تشاهد كذا؟ وتمارس كذا؟ وتعصي المعصية الفلانية؟ وتصلي في بيتك؟ بل وفي صغرك كنت تدخّن وتفحط؟ أيها المستشرف على أبنائك؟ يا من تقول ما لا تفعل!!

   بل تخيّل معي أن يكتشف إنسانٌ فاجرٌ جريمة سرقة أمامه، لكنّه لا يبلغ عن السارق: "يكفيني معصيتي، أأقول ما لا أفعل؟ كبر مقتًا عند الله، أأنكر سرقة بسيطة وأنا الفاجر الذي لم يبق معصية لم أقترفها؟ لا.. لن أكون منافقًا.. لن أمارس الازدواجية في حياتي.. مع السلامة.. باي يا سارق!".

   لنوسّع الأمر قليلًا، لتروا سخف هذه الحجّة، تخيلوا أن شخصًا مسلمًا ابتلاه الله بالزنا، أو قتل شخصًا فعُفي عنه من أهل الحق، ثم رأى في طريقه شابًا يتحرش بفتاة باللفظ، فاستنجدت به، لكنه خاطب نفسه: "هه! من أنا حتى أوقف هذا التحرّش؟! أأنكر على هذا الشخص لمجرد ألفاظ قولية.. وأنا اقترفت إحدى الموبقات العظمى؟!! لا.. كبر مقتًا عند الله أن أكون منافقًا.. قد يكون هذا الشخص خير مني.." ثم التفت من حوله: "بالله إذا سمحتم واحد معصوم عن الخطأ يدرك هذه الفتاة.. أَصْلي لا مؤاخذة غير مؤهّل.. واحد يا جماعة.. حضرتك معصوم؟!" "لا.. صوّرت مع فتيات في رحلة لي لفرنسا قبل فترة" "أها! لا ما تصلح.. أنت مستشرف.. يلّا.. الله يعينها.. تكبر وتنسى!".

   وهكذا.. تتوقف البشرية عن نصح بعضها والإنكار على أخطائها بسبب هذه -وأستغفر الله على الكلمة- (الحجّة!)، والتي لن يطبقها أو يلتفت إليها إنسان لديه ذرّة عقلٍ مهما كان تقصيره، ومهما أثقلته معاصيه، لأنّ عقله يكون بكامل وعيه في المصالح الدنيوية، وما أشد النكير فيها، بينما للأسف قد يسهل على هذه الشبهة أن تنفذ إذا تعلّق الأمر بالنصح في شؤون ديننا لأن الصدوع تكثر فيه بسبب مطارق الأهواء التي كثرت في زماننا.

   ‏وقد أجاد الشاعر واختصر حين قال: ‏

إذا لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ *** فمن يعظ العاصين بعد محمد؟! ‏

   صلى الله عليه وسلم، «ولو أنّ المرء لا يعظ أخاه حتى يُحكمَ أمر نفسه لَتُرِك الأمر بالخير والنهي عن المنكر».

   ‏النبي عليه الصلاة والسلام حين أمرنا بإنكار المنكر كان يستحضر مخاطبته لبشريّة خطّاءة غير معصومة، بل وتعاود الذنب بعد الذنب، أليس هو من قال عنا: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقومٍ آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم).

   ‏وقبل ذلك الله عزّ وجل الذي قال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) هو من قدّر الذنب والتوبة وخاطب المسرفين بالأوبة.

   وفي الكامل للمبرّد أنّ الحسن البصري رحمه الله قال لمطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي: يا مطرف، عظ أصحابك. فقال مطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل. فقال الحسن: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول؟! لود الشيطان أنه ظفر بهذه منكم فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه عن منكر.

   فإن استدلوا عليك بقوله تعالى: (لم تقولون ما لا تفعلون) فكن ذكيًا، واستحضر الأمثلة الماضية لتعلم أنّ الآية ليست كما يستدل بها الغير، واعلم أنه من استدلّ بها لإسكات ناصح أو منكر فالأمثلة في الأعلى أكبر رد على خطأ هذا الاستدلال، ثم اعلم كذلك بأنّ علماء أمتنا أدركوا هذه الشبهة (كعادتهم) منذ قرون وردّوا عليها بأبسط ما يكون، فقط تنتظر من يبحث عنها ويقرؤها:


   ثم انظر لهذه المعرّفات التي كانت تذوب في جانب رجاء الله، وأن الله غفور رحيم أيها المتشددون، وقابل التوبة يا دواعش، وديننا دين التسامح والرحمة، ويتهمون علماء السنة ودعاتهم بأنّهم زرعوا اليأس في القلوب مع سعة رحمة الله، فإذا نصحهم شابٌ ما.. تشظت الرحمة، وتفلّت الرجاء، لينقضّوا على أرشيفه، ويعيّروه بمعصيته تعييرًا ما سمعه قاتل المئة نفس، وأيّسوه من أي رجاء للصلاح والنصح لوجود هذه المعصية، وراحت الرحمة.. وراح الرجاء.. وراح التعايش.. عند أوّل نصيحة.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال