جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


في الأيام الماضية، مرّت علي تغريدات متفرقة لشخصيات مختلفة تقف موقفًا معينًا من عنوان كتاب لابن القيم رحمه الله الشهير: (إعلام الموقعين عن ربّ العالمين)، وكانت شرارة الأمر قد قدحت بتصريحٍ لفضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان -حفظه الله تعالى- يقول فيه: (المفتي موقعٌ عن الله سبحانه وتعالى)، وكان مضحكًا للغاية أن أرى عند كثير من هؤلاء المعترضين مشاعرًا يختلط فيها الاعتراض والانزعاج من الشيء، والفرح بوجوده في ذات الوقت، فكيف يكون هذا يا ترى؟!

لديّ تفسير طريف لبعض المظاهر الفكرية التي تدفع (بعض) هؤلاء لمثل ردودهم العجيبة على كلام الشيخ، تشكّل لدي هذا التفسير من خلال قراءة مقالات وردود لأشخاص يختلفون في التوجه لكنهم يعيشون نموذجًا واحدًا يعززون وجوده من حولهم بالتخيّل، أو بإسقاطه في الواقع بصيغ المبالغة أو حرف الكلم عن مواضعه.. ونحو ذلك.

وعلى كثرة مصطلحات هؤلاء التي ينحتونها وربما يطمع بعضهم في خلودها فإنك تجدهم في كتاباتهم يصنعون المزيد من الألقاب والمصطلحات جديدة أو مقتبسة ويوزعونها بالمجان على الحاضر والماضي القريب.. وربما المستقبل كذلك، تحت شعارات تغري كل مستحضرٍ لبناء السيرة الذاتية التي يرجوها واحدهم لنفسه، وبدوافع صادقة نبيلة أو أنانية نفعية.. لايهم.

وكلما تأملت فيما يكتبون يقع في نفسي أن الواحد منهم، بحق، يكتب بلا وعي، لأنه قد جعل الماضي بُعدًا آخر في حاضرنا، فهو يعيش واقعنا لكن في بُعدٍ مختلف أنشأه بأمنياته وخياله، ويتحّد فيه بشخصيات لها سير ذاتية لا يكتفي بخطوطها العريضة التي يصحّ الاقتداء بها في كل زمان ومن كل الشخصيات؛ بل يقتبس بيئتها ومصطلحاتها وواقعها ومشكلات ذلك الواقع وكلّ تفاصيله ومراحله فيعصره ويصنع منه حبرًا يكتب به سيرته الذاتية الكفاحية في واقع آخر وزمان مختلف، بداية بما قرأه في تلك السير وأُعجبَ به منها.. ونهاية بها، وسواءٌ كانت شخصيات أو مراحل زمنية.. أو غير ذلك.

بل المسألة تجاوزت -عند بعض الشخصيات- إسقاط نموذج سابق حصل في واقعٍ مختلف وسياق تاريخي مغاير.. على واقع اليوم، الأمر -في نظري- وصل بهؤلاء البعض إلى إسقاط أنفسهم على ذلك النموذج وعيش واقعه فأصيبوا بغيبوبة فكرية تامة، فصرت تراهم أثناء طرحهم ونقاشهم وكتاباتهم كأنّك ترى مجنونًا يهذي لوحده ويتحدث منفردًا وكأنه بين جموع من الناس، ويغضب دون سبب، ويضحك بلا باعث، وأحيانًا نتمنى (من باب الفضول العلمي لا تمني الشر) أن نعرف، في عافية من شؤوننا، عن طبيعة العوالم التي يبصرها المجانين ويتفاعلون معها.

وحين أقرأ لبعضهم يأتيني ذات الفضول العلمي أحيانًا حين أجهل طبيعة الواقع الذي يتمثّله أحد هؤلاء، لكنّي أحلف أن البعض منهم يذهب بي مباشرة إلى أوروبا أيام سقراط وأثينا، أو في أواخر العصر الوسيط وربما فيما تلاه من عصور النهضة والتنوير، ويا لشدة فرحه وأنسه حين يظهر من عالمٍ أو طالبِ علمٍ مصطلح أو موقف يقارب ولو بالتكلف والاصطناع أو الكذب والخداع إشكالات ومصطلحات تلك العصور، لسان حالهم: ((أرجوكم، أرجوكم.. كونوا حكماء أثينا.. لأكون سقراط (لكن بدون سموم!)، كونوا محكمة تفتيش رومانية (بدون قوة ولا سلطة طبعًا!) وسأكون غاليليو (مع رجاء ألا تطمعوا أن تروا مني اكتشافًا ما! أتمازحوني؟!!)، ومعاذ الله أن أكون إيمانويل كانت وتكون أنت ملك بروسيا، لا!! فأنا أعرف الخطوط الحمراء مقدمًا، وأصمت عنها في أول العمر، وأقف عليها لأستقبل راسمها بخضوع الالتزام بالخطوط العريضة)).

يقرأ أحدهم لشخصيةٍ أوروبية حاربت الظلمات (بغض النظر عن أي تفاصيل ومقتضيات وأحكام حول هذه الجملة) فيتجه بروحه وعقله وفكره إليها حتى تتلبسه أو ينتقل بالزمن ويتلبسها، فيجد نفسه راغبًا أن تكون سيرته الذاتية فارسة عصرها –مع قابلية التغيير عند البعض حسب الظروف!!-، فيحاول أن يختطف من واقعه العربي والإسلامي النماذج المضادة للشخصية الأوروبية الإصلاحية أو التنويرية.. إلخ، والتي كانت تتمثل بـ:
  1. الحاكم المستبد المؤيَّد بزعمه من الرب، والذي كانت تجسده البابوية ورجالها بسلطتها المتجذرة ونفوذها الواسع حتى على غالب السياسيين في تلك القرون.
  2. التراث اللاهوتي الذي سقط عند أول اختبار للفطرة العقلية والتجربة الحسّية، إما سقوطًا علميًا أو بانغلاق حامليه أمام فتوحات العلم وردعها بالقوة والوعيد.
فيبحث هؤلاء في واقعنا المعاصر –بالغصب والتكلّف- قوالب يسكبون فيها سيالات الماضي.

فمثلًا.. أخذوا يطابقون باللفظ والمعنى واقع الكنيسة في تلك العصور بواقع علماء المسلمين في هذا العصر، مع أن أدنى مطلع لواقع الحال يجد أن علماء أهل السنة ليس لهم في تاريخنا المقدار الذي كانت تنعم به الكنيسة طوال عشرة قرون حيث كانت لهم اليد العليا على كل شيء تقريبًا، اللهم -والحديث عن علماء المسلمين- إلا كمرحلة تالية للقرار تدعم أو تنصح، فعلماء المسلمين -على اختلاف مناهجهم- لا يتجاوزون في سلطتهم حدود سلطة أي مواطن عادي في أي بلاد كانوا فيها، إذا غضضنا الطرف عن الوجاهة الاجتماعية والاحترام المتبادل مع أصحاب القرار في بعض منعطفات التاريخ ورحبات الجغرافيا.

فكيف يُحَمّلون مالم يملكوا يومًا مفاتيح قراره؟!! إنها الغيبوبة يا سادة.. والبعد الآخر الذي يعيشه الغير.

ما شأن هؤلاء الغائبين بتاريخنا وجغرافيتنا وواقعنا؟! هم يرون في سِيرِ الأحرارِ الأوروبيين ما يغني عن أحرار عصر النبوة والخلافة الراشدة والتابعين لهم بإحسان.. وسيرهم، وفي تكرار تاريخ أولئك وثوراتهم ومواجهتهم "للمتحدثين عن الإله!!" ما يثير القلب والوجدان أكثر من سير الصالحين المصلحين خلال تاريخنا، فإذن: ((يجب أن يكون هنالك من يتحدث عن الله من حولنا، يجب، وإذا كانت جملة (الموقعين عن الله) تعني التحذير العظيم من مسؤوليتها ومدافعة منزلتها والتنصل منها قدر الاستطاعة، وليس المعنى الذي نتمناه وهو (أن المفتي يكون في مرتبة تشريف مقدّسة تلقي عليه هالة سماوية) فسوف نتجاهل حقيقة معناها. وحين نقرأ قول ابن القيم: (فخطرُ المفتي عظيم، فإنه موقِّع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا، وحرّم كذا، وأوجب كذا) نجعل أصابعنا في آذاننا ونستغشي ثيابنا ونصر ونستكبر استكبارا ليكون المعنى الذي نعيشه في النموذج هو المعنى المقصود، فموقعٌ عن الله، ستعني (ونقولها ولا زالت أصابعنا في آذاننا..) أنّه: يملك السلطة ويضفي على نفسه هالات القداسة والعصمة)) 

أما نموذج (التراث) فالكتاب والسنة يستحيل أن يتعرضا لتطاول حَرفي وصريح، على الأقل حتى الآن، ومن قبل هؤلاء، لكن الطريق لتلبس نموذج تصدي فلاسفة تلك القرون لتراث العصر الوسيط يكون من خلال جعل التراث الشرعي السلفي هو الخلفية الشرعية المبررة للواقع المر اليوم كما يصفون مرارته ويرونها ويقررون وجودها، فإذن هي التعاليم اللاهوتية ذاتها والتي يجب أن نمارس دور التنوير ضدها، ومن هنا بالذات يبدأ التخبط عند هؤلاء على اختلاف توجهاتهم التي تتباين أحيانًا، وما ردودهم على مصطلح (التوقيع عن الله) إلا أنموذج مصغر جدًا للتحايل وحرف الكلم عن موضعه والتدليس في التعامل مع التراث، واختراع نماذج متخلفة لتفعيل نماذجهم البطولية، فيضربون خيال التخلف بخيال بطولاتهم، ويكون المجني عليه الواقع، لأنهم يصيرون من أسباب التخلف، وتأخير الوعي، وإتخام الواقع الفكري بالجدل.

فلا تستغرب غرابة طرحهم وبعده عن الواقع، إذ بات شغلهم الشاغل اقتباس العداوة التاريخية بين (العلم والكنيسة)، من قصة التحرر الأوروبي من سلطة علماء الدين ليحشروها بالتكلّف أو بالافتراء في واقع الأمة الإسلامية بلا مراعاة لاختلاف الدين واللغة والتاريخ.. وحتى الجغرافيا والطبيعة، ولو كان الأمر لهم لغيروا أسماءهم إلى أسماء فلاسفة تلك العصور، وسموا مؤلفاتهم على عناوين مؤلفات أولئك القوم، وربما فعل البعض ذلك.

وهذه من وسائل التحايل البعيدة أو شبه الصريحة للمناهج الثورية والحركية، والتي تدفع باتجاه الثورات والفتن عبر السنوات والعقود، فهي حركات خارجية.. ولكن من بعيد، كأنهم يخرجون المادة الخام لسلاحٍ سيستخدم بعد عقدين أو ثلاثة، وهذا من الخطر بعيد المدى والذي لا يكاد يتنبه إليه إلا علماء أهل السنة الذين اقتبسوا نباهة سلفنا الصالح فعرفوا مواطن الفتن قبل عامة الناس؛ بل قبل من ينسب نفسه للثقافة وهو عاميّ النباهة، ولا غرابة، فإمامنا صلى الله عليه وسلم كانت أحاديثه عن الخوارج تتحدث عن شخصية يخرج من ضئضئها أهل الضلال والفتن، ويكأن ذلك (التطبيق) العملي في كشفه ينبه على أنهم يمكن اكتشاف الشرارات الأولى، فحين تسمع من يقول عن العلماء أنهم (نواب الله في الأرض) فهم يقولون للأجيال وللشباب المتحمسين: أنتم تفهمون بقية القصة (والتي أدت إلى مذابح وفتن الثورات الفرنسية والاستعمار للأمم)، فيصفون الغمد.. ليكمل عقل الشاب ما يناسب مرحلته من تصور حدّ السيف، وهذا من أخطر ما تم تصديره لشبابنا لعقود حتى أدى لما هو معلومٌ اليوم (وأرجو ألا يكون بعد فوات الأوان) مآلاته، فالشاب الذي لا تتحايل على عقله ولا تجنّده الإسقاطات الخاطئة لنصوص العزيمة والقتال الدينية، ستنجح إسقاطات (الأفيون الآخر) في جذبه للتجنيد.

الأمر عند هؤلاء كمن يرى أن أول شروط الليبرالية هو حلق الشارب مع اللحية، وكمن يظن أن فن الرواية يلزم كتابها بتدخين الغليون (بهذا المصطلح بالذات!)، والاستماع للسمفونيات العتيقة، أو أن السيرة الذاتية لا تحلو إلا بارتداء (السكارف!)، وربما يتخلل هذا العالم الموازي شكليات دقيقة، كالمصطلحات، فيصير لفظ الجلالة الله سبحانه وتعالى -بعد عفوية اللسان العربي المبين-: الإله.. الرب مع جفافٍ فلسفي ظاهر، وربما بدت نصوصهم بناء وتركيبًا وكأنها تُرْجِمت للغة أجنبية، ثم عادوا وترجموها إلى اللغة العربية، فصرت ترى نصًا مترجمًا دون ترجمة، وهذا من الإغراق في تعبيراتهم المنقولة عن أولئك، وهي من طرائفهم الغريبة.

والنتيجة -في أسوأ الأحوال عند (بعضهم)- الدعاية لحريّة النفاق والكفر والسخرية من مواجهة الشرك، والجفاء مع قضايا القرآن والحياة العظمى كالتوحيد والإخلاص والتقوى والدعوة إلى الله والتوبة.. وغير ذلك، واعتبارها انصرافًا عن الواقع، في نظرةٍ خالدةٍ إلى علمهم من الدنيا، وكذلك التهوين من قدر الشريعة في قلوب الناس من خلال الأخذ بما يطلقون عليه المعاني الكبرى التي تحققها كالعدل ومحاربة الفساد دون مراعاة لتفاصيل السياسة الشرعية، مع المراعاة التامة لتفاصيل التجارب الغربية في الحكم والثورة، فضلًا عن تغير النفس تجاه سلفنا الصالح والجفاء البالغ نحوهم لإلحاح معارك النموذج في نفوسهم حتى تختل وتشمئز مما يجب في أقل الأحوال تقديرهم وإجلالهم.

لذلك أسأل نفسي أحيانًا: ماذا لو استمرت سلطة الكنيسة إلى يومنا هذا، وكان مندوبي البابوية في تلك الأمم لا زالوا يحكمون "بأمر الإله"، وماذا لو لم تظهر تلك الأسماء الكبرى في قصة الحضارة الأوروبية، أو أنهم وجدوا لكنهم كانوا في غمار الناس.. نسيًا منسيا، فكأن تلك السير لم تكن، بل وحتى توما لم يظهر فيهم، فكان الأمر خالصًا لتعاليم الكنيسة بلا كدر ونكد، وفي ذات الوقت كان واقعنا الإسلامي والعربي كما هو الآن؟ كيف يكون حال هؤلاء؟! وهل ستهديهم عقولهم لأسئلة النهضة منطلقين من الوحي كما ينبغي لعقلاء الأمة؟! أم سيكونون أيتامًا بلا نموذج؟!! وربما دلهم إقدام عقولهم على التكايا والزوايا؟! ربما.. من يدري.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال