جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

طابور-صف-تجاوز-تخلف-نظام

طوابير الانتظار عالم مختلف وطريف، عندما تدخل فيه تحس أنك انتقلت من بعد لبعد آخر، لحساسية الانتظار والاصطفاف والنظرات وطبيعة أجواء الدوائر الحكومية الرتيبة، وفي هذه الطوابير يظهر كالعادة الصنف السيء من الأشخاص ليلقوا بحضورهم الثقيل على أجواء الانتظار، ويبدأ الشحن السلبي بمجرد تواجدهم ومرورهم ونظراتهم وتلميحاتهم وحركاتهم المعروفة.. وبالتأكيد (تبريراتهم).

كنت واقفًا قبل عدة أيام أمام شباك إحدى الدوائر الحكومية، وبالقرب منا يوجد شباك آخر أمامه طابور مجاور لنا، وبعد ساعة تقريبًا بقيت أنا وشخص آخر أمامي، وفي الشباك المجاور بقي رجل واحد فقط سمعت الموظف يقول له: اذهب إلى الشباك الآخر لأن هناك أوراق لم تعد متوفرة لدي، حينها انتهى الشخص الذي أمامي، وأثناء تقدمي جاء ذلك الرجل وسد الطريق أمامي ليقدم الأوراق ويأخذ قرابة الربع ساعة دون أسف أو "ماعليش" أو مجرد ابتسامة، بل تعمّد ألا ينظر إلي أثناء انتظاره في ملامح تعرف منها أنه يعلم خطأه، لكن الله أعلم ما يقول في نفسه، وبالنسبة لي.. ومن خلال ملامحه وأخذه ورده مع الموظف عرفت أنه من الناس المتخلفين الذين لا مانع لديهم من رفع أصواتهم ليجمعوا الناس حولهم كي يحرجوا الطرف المقابل في النقاش، فقط.. ليمشي رأيهم بغض النظر عن نظرات الناس وكلامهم وما يرتبط بهذه المشاكل من أجواء مقرفة، فتركته.. وربع ساعة أفضل من مجادلة أحمق أو قليل أدب، كما قيل في الحكمة: لا تجادل الأحمق، فقد يخطئ الناس في التفريق بينكما.

أعجب منه من يدخل إلى مكانٍ ما، ويتجاوز الطابور ويتسلل للأمام وكأنه النمر الوردي في تسلله؛ ليسمح لنفسه أن يتحدث مع الموظف مباشرة على حساب المنتظرين ليقول: أنا جاي أستفسر فقط. طيب يا أخي احنا جايين نجاوب مثلًا، وكأن هذا التبرير السخيف يجب قبوله، مع العلم أن الكثير من أصحاب الطابور إنما جاؤوا للاستفسار، مثلهم مثله، لكنهم صفوا كأناس محترمين لأنفسهم وللنظام، حتى وصل دورهم واستفسروا وذهبوا في أمان الله، فهل على رأسك تاج يفرقك عن الناس، أم هي الأنانية وعدم المبالاة؟!

والأعجب من ذلك أن يتاح لك التقدم بالطابور بأسلوب حسن، لكنك تدعه إلى أسلوب يحرجك أمام الناس ويضعك في موقف لا تحسد عليه ولا تُغبن، فمن مظاهر اللباقة ما نراه في طوابير مراكز التسوق.. عند المحاسبين، حيث جرت العادة عند الناس اللطيفين أمثالي أنني حينما أجد شخصًا خلفي معه أغراض قليلة، وأنا أمامه معي أغراض الدنيا والأولين والآخرين، مما يلزم المسكين أن ينتظر قرابة العشر دقائق كي يحاسِب، بينما لو سمحت له بالمرور لن تمر بضعة ثواني حتى ينتهي، فإنني تلقائيًا أبتسم له بلطف، وأقول له: "تفضل.. ترانا مطولين".

لكن أن تأتي بأغراضك القليلة ثم تتجاوز الطابور دون "إحم" ولا "دستور" ولا "عن إذنكم" ولا نحو ذلك، فلا تستغرب إن زجرك أحدهم وطالبك بالرجوع إلى الخلف بأسلوب محرج، كما حصل ذلك أمامي في إحدى الأسواق، حيث تعدى أحدهم الطابور بحجة الأغراض القليلة (علبتان فقط!) فلقي ما لا يرضيه من رجلٍ كبير في السن، والذي أعجبني كلامه وأسلوبه في قوله: "والله يا ولدي لو صفيت طابور كان قدّمناك وراعيناك، لكن تمشي من قدامنا ولا كأننا موجودين.. مو زينة بحقنا ولا بحقك، ارجع الله لا يهينك!!"، فرد المتجاوز: "أنا ما معي ألا هذه"، لكن الرجل كان حازمًا فقال: "والله لو ما معك ألا علبة بيبسي.. لا صفيت طابور زي الناس ولا استأذنت!"، ولكم أن تتصوروا ملامح الرجل وهو يجر أذيال الخجل، ولا ألومه فأنا شعرت بالحرج أكثر منه مع أنني متفرج فقط.

أما المثال الأخير فيعرفه الموظفون حين يستقبلون نهاية الشهر.. ونزول الراتب، فيقفون –مثلهم مثل غيرهم- في طابور السيارات أمام مكائن الصرف المتناثرة بين المحطات والطرق، ولأنه من الصعوبة بمكان أن يأتي الرجل ويحشر سيارته بين سيارات الناس ليتقدم، فإن أولئك القوم إياهم ابتكروا أمرًا طريفًا جدا، وهو الوقوف بسياراتهم بجانب الصرافة ثم النزول عنها، لينسلّوا للصرافة بأرجلهم أمام أعين السيارات المصطفة، طبعًا أبو الشباب له تبرير طريف هنا لسان حاله: (أوه.. أنا واقف وأنتم على سياراتكم، لذا سأمشي إلى الصرافة وأسحب وأحول وأدفع الفواتير وأؤخركم ربع ساعة مع أنني أتيت بعدكم، فقط.. لأني أوقفت سيارتي بالجوار وأتيت مشيًا، والمتوقع منكم ألا تعترضوا!!).

أما أطرف تبرير مرّ علي هو أن آتي بأصدقاء لي وأدخلهم الصف أمامي دون استئذان من المنتظرين بالخلف، طبعًا إذا كان صاحب هذا الموقف أحمقًا فإن مبرره أن هذا المكان له وهؤلاء أصدقائه.. إذن ما المانع أن يدخلوا الطابور من جهتي؟!!

هناك فقرة منتشرة في الانترنت من مقال للشيخ الطنطاوي يحكي فيه قصةً حصلت أمام صديق له، قال فيها –رحمه الله تعالى-: (حدثني رجل كبير القدر صادق اللهجة قال: كنت في لندن، فرأيت صفا طويلا من الناس يمشي الواحد منهم على عقب الآخر ممتدا من وسط الشارع إلى آخره أمام مركزٍ للتوزيع.

قال: ونظرت فرأيت في الصفِّ كلبا في فمه سلة وهو يمشي مع الناس كلما خطوا خطوة خطا خطوة لا يحاول أن يتعدى دوره أو يسبق من أمامه ولا يسعى من وراءه ليسبقه ولا يجد غضاضة أن يمشي وراء كلب مادام قد سبقه الكلب.

فقلت: ما هذا؟
قالوا: كلب يرسله صاحبه بهذه السلة وفيها الثمن والبطاقة فيأتيه بنصيبه من الإعاشة.

لما سمعت هذه القصة خجلت من نفسي أن يكون الكلب قد دخل النظام وتعلم آداب المجتمع ونحن لا نزال نبصر أناسا في أكمل هيئه وأفخم زي تراهم فتحسبهم من الأكابر، يمدون أيديهم من فوق رأسك إلى شباك البريد وأنت جئت قبلهم، أو يقفزون ليدخلوا قبلك على الطبيب وأنت تنظر متألما لساعتين.

خجلت من رجال لم يتعلموا الانتظام الذي تعلمته الكلاب). انتهى

وطبعًا كي لا يكون هناك جلدٌ للذات، وإعطاء المثالية للغير، فقد مرّت علي مقالات وبرامج ومقتطفات وأفلام ومشاهد ونحوها تصور مظاهر سلبية للناس في أمريكا وبريطانيا وتلك المجتمعات، فالأشخاص السيئين والغير مبالين ليسوا موجودين في مجتمع دون مجتمع مهما كان ذلك المجتمع متقدمًا في الحساب المادي والدنيوي، لكن تُذكر هذه المظاهر بسوء كي يعتبر من لم يعتبر، وإلا فقد مرت أيام لم يكن للطابور وجود، بل الأطول يدًا ولسانًا هو الأسرع، واليوم تفشت لله الحمد مظاهر الانتظار الإلكتروني والمواعيد الإلكترونية في بعض مؤسساتنا المحلية وإن لم تكن موازية لطموح أي شخص، لكنها موجودة على أية حال، ووعي الناس باحترام الطابور أوسع من ذي قبل، وعتبي هنا لبعض من يشوه هذه المظاهر.

وما يحزنني أنك تجد ثناء عجيبًا من كافة الناس لمثل برنامج أحمد الشقيري، ولعلهم يهجون مجتمعهم بعد كل حلقة من حلقات خواطر، لكنهم –في أرض الواقع- يكونون حجر عثرة أمام هدف البرنامج حين يهملون التفاصيل البسيطة في وقتها والمهمة في معناها من حياتهم، كأن يهملوا الطابور، ويقفون بسياراتهم عشوائيًا في منتصف الشارع، وما يعنيه ذلك من قلة الاهتمام بالغير واللامبالاة بالنظام.


تعليقان (2)
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

  1. صدقت .....
    وما ذكرت غيض من فيض ....

    كـل الـتــحيــة

    ردحذف
  2. أهلا بك عزيزي أبو زيد..

    ومرحبا بك وبطيب مرورك.

    ردحذف

إعلان أسفل المقال