جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

ميزان-أموال-ساعة-ترابية-الطمع-الوقت-التجارة-على-حساب

صمتٌ يحيط المكان.. لا يخترقه إلا أنفاس هذا الشيخ الذي خطى بعمره نحو التسعين.. والذي يجلس في هذا الصباح الجميل في مكانه المعتاد على شرفة غرفته المطلة على ساحة قصره الواسع.


وعلى الكرسي المتحرك يبدو ككتلة مرمية بلا حراك، برأسٍ مائلٍ للأمام، وعينين ناعستين وبصرٍ واهن يقلّبه يمنةً ويسرة. جلس الشيخ ساكنًا يتأملُ انعكاس شمس الضحى على أحجار القصر، وعشبه.. وبلاطه، حتى استقر بصره على غرفة عبدالمجيد.. العامل الآسيوي الذي صار في أوقات الصباح ابنه البديل عن أبنائه الموزعين "ما بين دراسة في الخارج، وأعمالٍ في الصباح.. غير أنهم نِعْمَ الأبناء هم في برّهم وتعاملهم".. هكذا يدافع عنهم في وجه من ينتقدهم في إتيانهم لهذا الغريب ليرعى والدهم.. .

ومع غناه.. وكثرة أبنائه.. وبرّهم له.. وتحقيقه كل ما يرغب به من الدنيا في حياته، إلا أنّ هالةً من الهم تعتريه كل صباح، حين يخلو بنفسه ويستعيد الماضي والحاضر.. .

همٌ يجعله يجاهد نفسه أحيانًا كي يخفي انتحابه وألمه ودموعه وأنينه.. حين تنكشف له مآلات الماضي في حاضره، وفي مستقبله كذلك !

بقي على هذه الحال حينًا.. حتى لم يعد لنسيم الصباح تأثيرًا عليه، ولا لإشراق الشمس رونقا، ولا لأحجار قصره ذلك الرقي والهيبة والفخر الذي كان يحسّ به كلما ملأ عينه منه.. ولا لأبنائه حضورًا وإن تواجدوا قربه.. .

بعد عشرات السنين من الفرح والسعادة والأنس والغنى بين زينة الحياة، يبدو الشيخ مذهولًا وهو يذوق في هذا العمر الماء مرًا، والعسل علقمًا، حتى تحولت رغبةُ الجلوس بين الأحبة إلى حبٍ للعزلة، وانصرافٍ عن مجالس الأصحاب، وكرهٍ لِلَهوِ الأحاديث والأشغال.. مع تأملٍ عميق يحس به، وتفكيرٍ بعيد يستولي عليه، كلما أراد الهروب منه لاحقه، وكلما أشغل نفسه بغيره أشغلَه.. .

يجد شيئًا من الراحة أحيانًا حين يبدأ بالحديث مع نفسه.. ومحاسبتها وتذكيرها بما أصاب من الحياة وما أصابت منه الحياة.. 

" لقد كنتُ مقصرًا في صلاتي.. فحرصت عليها وجاهدت نفسي حتى رضيت بحالي معها، ومقاطعًا لمكة والمدينة حتى أنهكت جسدي ذهابًا وإيابًا إليها عمرةً وحجا وزيارة، وكارهًا لمجالس الذكر حتى صرتُ من روادها.. لكن كل ذلك لا يكفي أمام شناعة ما اقترفت.. !! "

يصل الشيخُ إلى الحديث الذي لا يرغب بالتفكير فيه، فضلًا عن الحديث عنه مع نفسه.. أو غيره؛ لأن تذكره لهذا الأمر يجعله حزينًا على دينه وعائلته وحياته، يدور بفكره حول قصره وشركاته وماضيه ونجاحاته المادية.. حائرًا مرتبكًا لا حول له ولا قوة.. إلا الدموع ونار الأسى.

"يا لغفلتي.. وغروري.. وغبائي، ها أنت في الثمانين يا أبا علي، أين شركاتك؟ وأين أسفارك؟ وأين أصدقاؤك؟ وأين اللذات التي وصلتَ إليها بالحرام ولا شيء غير الحرام.. يا لحمقك أيها الشاب المغرور".. .

بدا لأبي علي وكأنه قد رأى نفسه في شبابه وقد تمثل أمامه، فأخذ يحدّ بصره إليه وقد امتلأت نفسه غضبًا وحنقا وعتابًا قاسيًا..

"لقد كنتَ موظفًا أيها الطائش، تُرزق كما يُرزق الطير.. بل وزيادة، وقد كان يكفيك من حَلال معاشك أن تعيش أبًا مسؤولًا، ويكفيك من هذا الحَلال أن ترفّه عن نفسك وزوجك وأبناءك في حدود القناعة والمعقول، لكن الطمع أعماك، والسلطة أغرتك، والمال حرّك السوء في نفسك أيها الشاب المسكين، فرغبت عن المعاش الحلال، بالربح الحرام من المشاريع والأسماء والرشاوى، فكنت في سكرةٍ أعمتك عن قِصَرِ هذه الدنيا، وأنها لا تستحق كل هذا البذل في الحرام، وأنها صبر ساعة، وقبضٌ على الجمر يليه من لذائذ الآخرة فوزٌ عظيم، فغششت نفسك وعائلتك ووظيفتك وبلدك.. وقبل ذلك وخلاله جَرَحْتَ دينك بجُرحٍ عميقٍ.. عميق، لتجد نفسك شيخًا عاش على أكل الحرام ريالًا ريالا، حتى صار واهنًا وعاجزًا لا يدري أين يذهب ومن يصارح، واصطدمتَ بسرعة مرور الأيام وانصرام الأعوام بعد أن غرك بطءُ عقارب الساعة.. آه منك يا أبا علي، ما الذي صنعته بنفسك؟".

كان الشيخ غير منتبهٍ لنفسه وهو يصرخ فيها، بل اقتنع بانفعالٍ ودون وعيٍ أنه قد قابل نفسه في شبابه، فكان غاضبًا وحانقًا.. قد غلا الدم في قلبه، واحمرت عيناه من حرارة الغضب وحرقة الدموع.. .

" يا لمصيبتك عند الله.. أين أنت عن (أبي سلمان).. الذي زاملك بالوظيفة غير أنه كان أذكى منك وأتقى لله وأكثر استحضارًا لمآلات الأيام فنأى بنفسه عما تصنعه، ونصحك يوم كنت تردّ النصيحة من الصادق وتستقبلها من شياطين الإنس، هاهو اليوم مستور الحال وزيادة، قد كبر أبناءه وكونوا عائلاتهم وهاهو يسكن بيته الصغير مقارنة بقصرك، والعظيم بمقياس الحلال والحرام الذي لم تسأل عنه يوما، حتى وجدت نفسك تُطعن طَعناتٍ عظيمة الألم حين تستمع إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأقوام الذين يطلبون المال لا يهمهم من أين اكتسبوه، وتنصت إلى أحاديث ضياع الأمانة، وتقف مع نفسك مصعوقًا حين تتيقن أنك مثالٌ حيٌ على هذه الأحاديث الشريفة؛ فكم من مشروع أخذت منه ما أخذت؛ وكم من تحايلٍ أوصل إلى حسابك الملايين من الأموال.. وكم من.. ".

تلعثم الشيخ في كلامه، وتحشرج صدره من الحزن، وبللت الدموع لحيته وشماغه، وأخذ ينتقل بنظراتٍ شاردةٍ وحائرةٍ دون وعيٍ في المكان علّه يجد طريقًا للماضي.. وخلاصًا من الهم العظيم الذي تمكن منه حتى هدّ جسده، حتى صار يرفض الخروج من قصره كي لا يمرّ طريقه على مشاريع وهميّة تآمر مع غيره عليها، ولا طرق عبّدتها شركاته فغش فيها وسرق، فصارت بالية مكسّرة كم أرهقت السائرين عليها وفتكت بهم مسببة الحوادث والهلاك، وكم ارتفعت من الدعوات عليه وعلى فساده في المال والمشاريع..

"يا ألله أعن شيبتي.. أين وجهي يوم القيامة منك.. كيف وصلت بي البجاحة والغرور إلى أن أكتب وصيتي في تقسيم الحرام على أبنائي.. يا ألله يا رحيمًا بعبادك.. أعلم أنك برحمتك ستغفر لي حقك علي إن علمت مدى ندمي.. لكن هذه حقوقُ أناس.. حقوق دولة.. حقوق شركات.. كيف أردّها.. كيف أصحح خطئي.. من أصارح؟ هل أصدم أبنائي بحقيقتي.. هل أقول لهم أن والدهم لم يكن عصاميًا كما كان يدعي، وأنه قد دخل في صميم الفساد.. ورباكم من أموال الفساد.. وقد كان لصًا وفاسدًا في إدارته.. الشيء الوحيد الذي كان يطمح إليه هو الغنى على حساب دينه وأخلاقه وسمعته وأمان غيره، والأمر الوحيد الذي كان يهمّه هو عدم انفضاح أمره.. وقد كان ربي يراني ليل نهار، يبصرني وأنا أرشو وأغشّ وأسرق.."

أخذ جسد الشيخ يرتعش ويهتز كلما علا نحيبه على حاله، حتى أحس به عبدالمجيد.. عامل المنزل، فهرع إلى غرفة الشيخ، وصُدم حين رآه طريحَ الأرض وقد سقط عن كرسيه بعينين حائرتين دامعتين..

خرج العامل قد أصابه الرعب ليستدعي النجدة، وودّع الشيخ الدنيا زاحفًا بوهنٍ نحو جهة القبلة، متشهدًا بلسانه وقلبه، ومتأرجحًا في فكره بين الخشية من الله تعالى على ما اقترفه.. والرجاء برحمته وعفوه وكرمه.


ومضة:
الموت لا ينتظرك حتى تتوب أو تصحح أخطاءك في حق نفسك.. أو غيرك من قريب وبعيد، بل يأتي فجأة بغض النظر عن حالك.. فاللهم الطف بنا واغفر لنا وأمتنا على الخير. آمين
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال